الاتحاد الأوروبي.. أسئلة مشروعة لما بعد كورونا
لم تكشف أزمة فيروس كورونا عن الثغرات الصحية في الأنظمة الأوروبية فحسب، بل إنها كشفت عمّا هو أخطر، من جهة تفكك المنظومة الاقتصادية، التي كانت تتباهى بها دول الاتحاد الأوروبي والتي صاغت اتحادها فيما بينها.
تؤكد تصريحات الزعماء الأوروبيين خلال أزمة انتشار فيروس كورونا وجوب التطرق إلى تساؤلات عديدة طرحتها الأوساط السياسية والاقتصادية والإعلامية الأوروبية، حول الأسباب الحقيقية التي جعلت دول الاتحاد الأوروبي تنال هذا النصيب الضخم من تداعيات الفيروس. المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، رأت أن "أزمة فيروس كورونا تشكل أكبر اختبار للاتحاد الأوروبي منذ تأسيسه"، في حين أن رئيس الوزراء الإيطالي، الذي تعتبر بلاده أكثر المتضررين من الفيروس، قال إن "ما حدث بسبب كورونا يعد أكبر تحدٍ للقارة منذ الحرب العالمية الثانية". لم تكشف أزمة فيروس كورونا عن الثغرات الصحية في الأنظمة الأوروبية فحسب، بل إنها كشفت عمّا هو أخطر، من جهة تفكك المنظومة الاقتصادية، التي كانت تتباهى بها دول الاتحاد الأوروبي. كورونا كشف في مكانٍ ما، حجم التباعد السياسي والاقتصادي، بين دول الاتحاد، ورغبة كل دولة في الهيمنة، بالإضافة إلى تعامل بعض دول الاتحاد مع الأزمة على قاعدة "من بعديَ الطوفان".
من خلال اتباع مسار انتشار فيروس كورونا في دول الاتحاد الأوروبي، والارتباك الذي أصاب هذه الدول، نرى أن "مركز الوقاية والسيطرة على الأمراض" الأوروبي (ECDC) ظهر وكأنه غير قادر على التعامل مع جائحة بهذا الحجم، إذ أنّ المواثيق التي يقوم على أساسها التعاون الأوروبي تحفظ للدول الأعضاء صلاحية إدارة قطاعات الصحة، والحماية الاجتماعية وإدارة الحدود، وهو ما استغلته كل دولة بشكلٍ منفردٍ من دون أي مناقشات أو تعاونٍ مع الدول الأخرى. وتبرز هنا التحديات الكبيرة في الحفاظ على التعاون الأوروبي، لا سيما وأن هذه الخطوة تستلزم في مراحل معينة تنازلات سيادية من جهة، وتحويل جزء من الموازنات المخصصة لهذه القطاعات في الداخل، إلى إدارات الاتحاد المركزية بشكلٍ عام لتصبح تلك الموازنات تحت تصرّف جميع دول الاتحاد. لكن لأجل ذلك، فإن دول الاتحاد بحاجة لإصدار قوانين محلية جديدة كمرحلةٍ أولى لأي تعديل في المواثيق الأوروبية ودورها في تلك المواثيق، وهو ما سيفرض استفتاءات عامة شعبية بالنسبة لبعض الدول (وفق الدستور). وفيما تتجنب الدول الأوروبية الدخول بأي استفتاءات لتفرض تعديلات على دورها في الاتحاد، كي لا تجد نفسها مضطرة لاستفتاءات أخرى حول تعديلاتٍ لاحقة، كألمانيا مثلاً، فإنها في مرحلة ما بعد كورونا ستكون أمام واقعٍ جديد بعلاقتها مع دول الاتحاد الأخرى، لأن المواثيق الأوروبية الحالية حول التعاون الصحي واللوجستي بين دول الاتحاد، أثبتت فشلها في مواجهة جائحة كورونا، وهذا ما ظهر مثلاً في القيود الصارمة التي فرضتها بعض الدول الأوروبية على تصدير المستلزمات الطبية حتى لدول الاتحاد، وقيام بعض الدول بإقفال حدودها بطريقة أحادية، أو قيام دول بـ"قرصنة" معداتٍ طبية قادمة لدولٍ أخرى. فعلى سبيل الثال، اتهمت شركة "مولنليك" الطبية، السلطات الفرنسية بمصادرة ملايين الكمامات والقفازات الطبية التي تم استيرادها من الصين لصالح إيطاليا وإسبانيا. ولعلّ أبرز ما يوضح فشل النظام العلمي والطبي الأوروبي في مواجهة كورونا وفق مواثيقه الحالية، هو تقديم رئيس مجلس البحوث العلمية في الاتحاد الأوروبي ماورو فيراري، استقالته من منصبه، بعد 3 أشهر فقط من توليه منصبه، حيث هاجم الجهات العلمية والعمليات السياسية الأوروبية. فيراري علّل استقالته في 8 نيسان/أبريل الماضي بالقول إنه "فقد إيمانه بالنظام بعد عدم تمكنه من وضع برنامج خاص لمكافحة فيروس كورونا"، وذلك بعد رفض المفوضية الأوروبية مقترحاته بالإجماع، إثر مطالبته ببرنامج خاص وموجه لمكافحة "كوفيد-19"، مع أفضل العلماء في العالم، ممن لديهم موارد لمكافحته بعقارات ولقاحات جديدة، ومعدات فحص وطرق سلوكية تعتمد على العلم، "ليحل محل الحدس المرتجل للقادة السياسيين الأوروبيين" وفق ما قاله فيراري.
برزت خلافات حادة بين الدول الأوروبية من جهة التعامل الاقتصادي مع الجائحة على صعيد التمويل وتقديم المساعدات، ووضع الخطط المالية للمواجهة. اختلف الأوروبيون حول منهج وطريقة هذه الخطط، ففي الوقت الذي تطالب فيه إيطاليا وفرنسا وإسبانيا بإصدار سندات حكومية أوروبية (يورو بوند أو سندات كورونا)، تسمح من خلالها بتجميع الديون السيادية للبلدان الأوروبية لتصبح ديناً سيادياً أوروبياً واحداً، اعترضت الدول الأوروبية "الثرية" مثل ألمانيا والنمسا وهولندا على تلك الخطة، رافضةً أن يسدد مواطنوها فاتورة ما يصفونه بـ"انفلات ميزانيات دول جنوب القارة". يذكر أن الموافقة على "سندات اليورو" كانت ستعني أنه سيتوجب على دول اليورو كمجموعة أخذ ديون مشتركة من الأسواق المالية وتوزيعها بينها وإعطاء ضمانة مشتركة لإعادة دفع هذه الديون والفوائد. والبلدان القوية مالياً سيتوجب عليها دفع فوائد عالية أكثر من الآن، فيما سيخف عبء الديون على البلدان الضعيفة مالياً. وإذا ما أصبحت بلدان غير قادرة على الدفع، فإن الدول المتبقية تتحمل ديونها وفوائدها. وفي هذا السياق، أوضحت المستشارة الألمانية حدود التعاون التي تضعها بلادها مع دول الاتحاد الأخرى، بقولها إن "الشعب الألماني كان قد تخلى (عام 2000) عن المارك الألماني ثقة منه في يورو مستقر. وهذه الثقة لا يحق بأي حال من الأحوال أن تخيب ظنه". وهنا تعود إلى الواجهة، الاختلافات بين ما تفرضه جائحة كورونا من إجراءات مستعجلة يجب القيام بها للحد من الانتشار، وبين القوانين المدوّنة لدول الاتحاد. على سبيل المثال، فإن الفقرة 125 من اتفاقية عمل الاتحاد الأوروبي تؤكد أن كل دولة تتحمل مسؤولية ديونها، وهو ما يتعارض مع جوهر "سندات اليورو" التي تطالب بها بعض دول الاتحاد بشكلٍ مستعجل لمواجهة الأزمة. والجدير ذكره، أن تلك الفقرة منبثقة من أن برلمانات الدول الأعضاء، وفي مقدمتها البرلمان الألماني (ألمانيا ترفض سندات اليورو)، هي التي تقرر بشأن أموال دافعي الضرائب في البلاد. لذا، قانوناً فإنه يحق لبعض الدول الأوروبية رفض عملية ضخ تلك السندات الموكل إليها تمويل مواجهة الجائحة على الصعيد الأوروبي المشترك، استناداً إلى عدم رغبتها بتحمّل أعباء تلك الديون. لكن مع عدم قدرة الدول الأوروبية على التضامن فيما بينها اقتصادياً لمواجهة أزمة بحجم كورونا، وتجاوز بعض الثغرات القانونية، فإن مرحلة ما بعد كورونا ستكون شديدة الحساسية فيما يخص جدوى التعاون الاقتصادي بين دول الاتحاد، في الوقت الذي لم يكن لهذا التعاون أي تأثير على مواجهة إحدى أشد أزمات العصر الحديث.. أي أنه وقت الاختبار كان التعاون الاقتصادي ضحيّة الأولوية الاقتصادية للدول، على حساب "الاتحاد الاقتصادي" فيما بينها.
من المبكر، لا بل من الصعب الحديث وفق المعطيات الحالية، عن تفكك عملي في منظومة الاتحاد الأوروبي، لكن ذهاب معظم الدول إلى معالجة الأزمة منفردة وطلب دول أخرى المساعدة من جهات دولية كانت تعتبر حتى الأمس القريب خصماً للاتحاد الأوروبي (روسيا الصين كوبا)، تشي بمعادلات سياسية ستفرضها جائحة كورونا على عمل الاتحاد في مراحل لاحقة. ولا شكّ أن "الهوية الوطنية" التي برزت بشكلٍ واسع خلال فترة مواجهة كورونا على حساب "الهوية الأوروبية الجامعة" ستلقي بظلالها على مسار عمل الاتحاد، بحيث أن الدول المنضوية لم تتصرف خلال تلك الأزمة باعتبارها "جماعة" أو "وحدة إقليمية". وأمام هشاشة منظومة الاتحاد الأوروبي في التعامل مع أول اختبار حقيقي لها منذ نشأتها، فإنه ليس من المستبعد أبداً أن نشهد "بريكست" آخر، على المدى المتوسط في حال الفشل بمعالجة الثغرات المذكورة آنفاً، لكن حتى وفي حال النجاح بمعالجة تلك الثغرات فإن "الجراح" التي تركتها أزمة كورونا على عمل "الاتحاد" ستظهر مع أي أزمة، مهما كان حجم خطورتها وتأثيرها... فمن سيقنع الشعب الإيطالي مثلاً مع أي أزمة قادمة أنّ الاتحاد الأوروبي ملجأهم؟! والأمر يتعدى ذلك، إلى الدول التي كانت ترغب بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، من جهة ما راكمته طوال السنوات من مساعٍ ومصاعب جمّة لتحقيق ذلك، ونظرتها لهذا الاتحاد بعد "كورونا"، كصربيا مثلاً، التي فتحت فصلاً جديداً من مفاوضات الانضمام أواخر العام المنصرم، لكنّ رئيسها الذي لم يجد غير الصين عوناً لبلاده، قال تعليقاً على تعامل الاتحاد مع أزمة كورونا، إنّ "التضامن الأوروبي غير موجود، كان كل هذا قصة خرافية على الورق".