مسؤولان أميركيان سابقان: ترامب يخترع مقاربة جديدة للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
بدلاً من الاعتراف بالتطلعات السياسية والقومية للفلسطينيين، يركز المفاوضون الأميركيون على اهتماماتهم المادية والاقتصادية.
كتب روبرت مالي رئيس مجموعة الأزمات الدولية وآرون ديفيد ميلر الباحث البارز في مركز ويلسون، والإثنان عملا في إدارة الرئيس باراك أوباما، مقالة مشتركة في مجلة "ذا أتلانتك" الأميركية اعتبرا فيها أن مقاربة إدارة الرئيس دونالد ترامب تجاه تسوية القضية الفلسطينية تقوم على مفاهيم وهمية هي: أن الشعب الفلسطيني أكثر اعتدالاً من قادته، وأن همومه الحقيقية هي الخبز والزبدة والحياة الطبيعية، بدلاً من الدولة أو القدس أو مصير اللاجئين. والآتي ترجمة كاملة بتصرف لنص المقالة: شهدت الأشهر الأخيرة سلسلة من الخطوات المأساوية التي اتخذتها إدارة ترامب فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وتدمير الوكالة المسؤولة عن اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وقطع المساعدات عن الضفة الغربية، وإغلاق بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، ووعد مستمر لتقديم خطة السلام الخاصة بالإدارة. وتأتي موجة النشاط على الرغم من أن احتمالات التوصل إلى اتفاق فعلي تبدو بعيدة بشكل متزايد. القيادة الفلسطينية أوضحت أنها لن تتطرق إلى أي اقتراح أميركي، فقد اقترح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنه لن يكون هناك أي ضرر في أخذ المزيد من الوقت قبل الكشف عن الخطة، والقادة العرب الذين تعتبر الإدارة دعمهم، أو على الأقل قبوله للمشروع، حاسم، قد أعربوا عن قلقهم ونأيهم بأنفسهم بأدب عن هذه المبادرة. سيكون من الصعب الآن العثور على أي شخص جاد يأخذ على محمل الجد فكرة أن إدارة ترامب ستحقق "الاتفاق النهائي" (للصراع الفلسطيني –الإسرائيلي)، مما يثير السؤال الأكثر إثارة: ما هو بالضبط ما يرمي إليه فريق ترامب؟ كونها إدارة (الرئيس دونالد) ترامب، فإن الإجابة ليست واضحة تماماً. لكن الواضح أن الهدف الأساسي للإدارة التي تخلت عن القيادة الفلسطينية الحالية ليس تشجيع الرئيس محمود عباس أو الضغط عليه للوصول إلى طاولة المفاوضات، على الرغم من تعهداتها المتكررة بعكس ذلك. حتى الآن، حتى فريق ترامب يجب أن يعرف أن هذا لن يحدث. بدلاً من ذلك، فإن هدف الإدارة من ذلك هو إعادة صياغة فهم الولايات المتحدة بشكل أساسي للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني وسياستها تجاهه، مع تحويل التركيز إلى الاهتمامات المادية والاقتصادية للفلسطينيين مع التقليل من شأن اهتماماتهم السياسية والوطنية. هناك تفسيرات محتملة أخرى لقرارات الإدارة الأميركية، بما في ذلك السياسة الداخلية، وتصميم الرئيس (ترامب) على الوفاء بالتزاماته التي تعهد بها في حملته والتي تروق لقاعدته (الشعبية) الطبيعية، ورغبة فريقه في مواءمة السياسات الأميركية بشكل أوثق مع سياسات نتنياهو. لكن لنمنح الفريق على الأقل هذا القدر الكبير من التقدير: في اعتدائه الدؤوب الذي لا هوادة فيه على أسس السياسة التقليدية للولايات المتحدة والسياسة الدولية، أظهر عقلية أحادية وشعوراً بوجود هدف له. كان المستهدف الأول هو حل الدولتين نفسه. كان جوهر النهج الذي تتبعه الإدارات الثلاث السابقة (ناهيك عن العديد من الحكومات الإسرائيلية) هو الترويج لمثل هذه النتيجة (حل الدولتين)، على أساس حدود عام 1967، مع تعديلات إقليمية تهدف إلى معالجة المخاوف الإسرائيلية. الإدارة الحالية رفضت بعناد المصادقة على ذلك. حتى لو فعلت ذلك في نهاية المطاف، فإن ممانعتها قد أوصلت رسالة واضحة: ليس الفلسطينيون مخوّلين بالضرورة الحصول على دولة خاصة بهم، ويجب ألا يُنظر إلى الدولة الفلسطينية على أنها النتيجة الطبيعية أو الحتمية لهذه العملية. الأمر نفسه ينطبق على اعتراف إدارة ترامب بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل". فقد نقلت سفارتها إلى هناك. إنها تعترف بارتباط "إسرائيل" التاريخي والديني الطويل والعميق بالمدينة. لم تفعل الإدارة شيئاً من هذا القبيل للفلسطينيين. فقط قالت إن حدود القدس النهائية ومسائل السيادة تخضع للتفاوض. ومرة أخرى، فإن المعنى لا مفر منه: في التسلسل الهرمي للمطالبات بالمدينة المقدسة، لا شك في أن طرفاً ما مقدس ولا جدال في مطالبته. أما الآخر فهو دنيوي وطلبه قابل للتفاوض.
"القدس ليست هي العبوة الناسفة - إنها المفجّر
وأخيراً، هناك سياسة إدارة ترامب فيما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين. فهي لا تكتفي بتفكيك الأونروا، وهي المنظمة التي تتعامل مع اللاجئين الفلسطينيين، بل إنها ذهبت أبعد من ذلك، مما يلقي ظلالاً من الشك على أهمية قضية اللاجئين نفسها إذ ادعت أن عدد اللاجئين المعترف بهم من قبل الأونروا مبالغ فيه إلى حد كبير. في الأسبوع الماضي، ذهبت نيكي هالي، سفيرة الولايات المتحدة السابقة لدى الأمم المتحدة، إلى حد القول بأن حق العودة - الطموح الفلسطيني في السماح للاجئين وذريتهم بالعودة إلى ديارهم داخل حدود "إسرائيل" قبل عام 1967 - هو الآن خارج طاولة التفاوض. حتى في معظم مقترحاتها البعيدة المدى، لم تؤيد أي إدارة أميركية سابقة بصدق الرواية الفلسطينية حول أي من هذه القضايا. الدولة الفلسطينية التي كانت الولايات المتحدة على استعداد للتفكير بها كانت تأتي دائماً مع تحفظات كثيرة، بحيث كانت سماتها أقل بكثير من تلك المرتبطة عادة بقيام الدولة. تميل القيود على سيادتها إلى عدم منحها سيطرة على مجالها الجوي، وتجريدها من السلاح، وفرض قيود على الأطراف التي يمكن أن تدخل في تحالفات معهم، وقبول حق "إسرائيل" في التدخل (في أراضي هذه الدولة) عندما ترى ضرورة لذلك. كما لن تشمل العاصمة الفلسطينية المستقبلية في القدس الشرقية مستوطنات يهودية، أنشئت في وسطها منذ عام 1967، ولن تمارس السيادة الكاملة على الأماكن المقدسة في المدينة. أما بالنسبة لعودة اللاجئين، فقد نظرت الولايات المتحدة إلى الأمر على أنه مجاملة كلامية أكثر من تطبيق حق. كانت التصورات الأميركية تقول: يمكن لعدد صغير من الفلسطينيين الإقامة في "إسرائيل"، ومعظمهم يعاد توطينهم في فلسطين أو في بلدان ثالثة، وسيتم تعويضهم جميعاً والاعتراف بمعاناتهم بطريقة ما - وسيصف العالم النتيجة بأنها دعم حق العودة. لكن إعطاء هذه الأمور إشارة رمزية على الأقل، وإظهار قدر ضئيل من الاحترام لها، أو هكذا شعرت هذه الإدارات المتعاقبة، زاد احتمالات إقناع الفلسطينيين بأن الاتفاق عادل. من دون ذلك، كانت تلك الاحتمالات لا تساوي شيئاً.
"كارثة" تحدد الهوية الفلسطينية
إن اعتقاد فريق ترامب أن الحل الذي يعالج هذه القضايا بشكل أساسي لن ينجح في النهاية - ليس الآن، ولكن ربما مع قيادة فلسطينية مختلفة - لا يمكن أن يستمد إلا من مجموعة من القناعات البارزة. أولاً، أن هذه الادعاءات عقائد قديمة - "حقائق كاذبة" - يغذيها الشعب الفلسطيني من قبل قيادة عفا عليها الزمن. ثانياً، تسببت إدارات الولايات المتحدة السابقة والحكومات الغربية الأخرى في أضرار جسيمة من خلال مسايرة هذه الأساطير، والامتناع عن دعوة القيادة الفلسطينية، وإظهار إبداع لا حدود له (وإن كان غير مثمر) في السعي لاستيعاب هذه المطالب السياسية. ثالثًا، إن تلك البنى الأيديولوجية الوهمية تقف في طريق التوصل إلى حل واقعي وعملي للنزاع. ورابعاً، إن الشعب الفلسطيني غالباً ما يغريه التعلق باحتمال إجراء تحسينات مادية فردية ملموسة في حياته بدلاً من تحقيق إنجازات سياسية جماعية موعودة. يا له من انقلاب مدهش. رأت جهود السلام الأميركية السابقة إقناع الفلسطينيين بالرضوخ في التبديد الفعلي لطموحاتهم الأصلية كتحدٍ، وعرضوا التسامح الرمزي كحل. وبدلاً من حق العودة الفعلي، فإنهم يحققون مثوله. وبدلاً من الدولة الكاملة، لن يتلقوا سوى زخارفها. وبدلاً من السيادة على كل القدس الشرقية، سيمارسونها على بعض أجزاء المدينة. لكن مقاربة فريق ترامب قد قلبت هذا المنطق رأساً على عقب. فقد أصّرت أن السعي إلى تلبية هذه المطالب الفلسطينية بأي شكل من الأشكال، ليس طريقاً للتوصل إلى صفقة براغماتية، ولكنه أيضاً عقبة لا يمكن التغلب عليها. لا يمكن التوصل إلى حل إلا من خلال تجريد أية أوهام سياسية فلسطينية متبقية. فقط من خلال تزويد الفلسطينيين العاديين مباشرة بفوائد اقتصادية ملموسة من الصفقة يمكنهم تبديد الروايات الخيالية التي عرقلتها. هناك الكثير مما هو خاطئ وغير تاريخي في هذه المقاربة. اتركوا جانباً مفارقة إدارة ترامب التي تدرك في وقت واحد مخاوف "إسرائيل" الوجودية والوطنية، ومع ذلك فهي متعجرفة في نبذ تلك التي للفلسطينيين. على نطاق أوسع، تقوم نظرية فريق ترامب على مفاهيم وهمية هي: أن الشعب الفلسطيني أكثر اعتدالاً من قادته، وأن همومه الحقيقية هي الخبز والزبدة والحياة الطبيعية، بدلاً من الدولة أو القدس أو مصير اللاجئين. كل شيء في التاريخ المعاصر للحركة الوطنية الفلسطينية يدعم الاستنتاج المعاكس: القيادة الفلسطينية الحالية تركز على المظالم التاريخية ليس رغماً عن الرأي العام، ولكن بسببه. بالعودة إلى الثمانينيات من القرن الماضي، فإن جهود "إسرائيل" لتهدئة الفلسطينيين بوعود نوعية الحياة قد تم رفضها فوراً باعتبارها محاولات ساخرة لطلي سجنهم. لقد فقد عباس شرعيته مع شعبه إلى حد كبير لأنه يُنظر إليه على أنه مذعن بشكل مفرط، وليس مناضلاً بشكل كبير. إذا تخلى عباس عن الجهود الأميركية للتوصل إلى اتفاق، فهذا لا يعني أن الإدارة يجب أن تبحث عن شريك آخر. وهذا يعني أنه لم يتبقَ أحد. تهدف مقاربة إدارة ترامب العقابية تجاه الفلسطينيين إلى إخبارهم بأن عصر الترميز قد انتهى، وأنهم سيدفعون ثمن إظهار العداء تجاه الولايات المتحدة أو إثارتهم مطالب سياسية غير واقعية. إن مقصدها- كما يدل على ذلك بشكل صارخ إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، الذي كانت وظيفته دائماً رمزية أكثر من كونها فعلية - قلب صفحة عملية أوسلو. والغرض من ذلك هو التأكد من أن المجموعة التالية من القادة الفلسطينيين الذين يأتون إلى طاولة التفاوض لن تضيّع وقتها في المساومة على الحدود والدولة والقدس واللاجئين، ولكن بدلاً من ذلك، سيفهمون أن خيارهم هو بين بناء مستقبل اقتصادي متفوق أو البقاء غارقين في ماضٍ مليء التظلمات. هذه هي النظرية. فماذا عن الممارسة؟ من خلال كلماتها وأفعالها، جعلت إدارة ترامب من المستحيل عملياً حتى بالنسبة للفلسطينيين الأكثر تفاؤلاً أن يظلوا يؤمنون بعملية السلام أو المفاوضات أو الدبلوماسية أو الوساطة الأميركية أو حتى بحل الدولتين. تلك المعتقدات، وكل ما جاء بها - الحاجة للحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة؛ للحفاظ على السلطة الفلسطينية واقفة على قدميها؛ للحفاظ على التعاون الأمني مع "إسرائيل" – قد قيّدت السلوك الفلسطيني على مدار ربع القرن الماضي. كانت هناك استثناءات، بالطبع: الانتفاضة الثانية هي الأبرز على الإطلاق. لكن ما منحته اتفاقات أوسلو للفلسطينيين من شرعية واعتراف من واشنطن، استولت عليها بحرية العمل - ليس بالصراع، سواء كان مسلحاً أو غير عنيف؛ لا توجد مبادرات دبلوماسية مستقلة؛ لا للجوء إلى آليات العدالة الدولية. وبتجريدها من عبء أوسلو، وبعبارة أخرى، فإن الإدارة الأميركية قد قامت أيضاً عن غير قصد بفك قيود الفلسطينيين. لديهم مكان واضح للذهاب. طريقهم المستقبلي غير مؤكد، لكنه بالتأكيد سيكون مختلفاً. بعد أن غرقت في جوهرها، يبدو أن رسالة الإدارة الموجهة للفلسطينيين هي: لقد خسرتم، تغلبوا على ذلك. ويكمن السبب وراء محاولتها لإعادة تعريف شروط النزاع بشكل جذري في الاقتناع بأن جميع المحاولات السابقة قد فشلت وأن نهجها الجديد يجب أن يكون فرصة. فريق ترامب محق بلا جدال بشأن الجزء الأول. لكنها مخطئة جداً بشأن الجزء الثاني. *روبرت مالي، الرئيس والمدير التنفيذي لـ"مجموعة الأزمات الدولية"، كان منسق البيت الأبيض لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ومنطقة الخليج في إدارة الرئيس باراك أوباما. *آرون ديفيد ميلر هو زميل متميز في مركز ويلسون، وهو محلل ومستشار ومفاوض سابق في الشرق الأوسط في الإدارات الديمقراطية والجمهورية. وهو مؤلف كتاب صدر أخيراً بعنوان: "نهاية العظمة": لماذا لا يمكن أن يكون لأميركا (ولا تريد) رئيساً عظيماً آخر".