نهاية ملكية قوروش: 3 طائرات من أجل جمهورية جديدة
"انتصرت الثورة"، بثّت إذاعة طهران. الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة وُلدت أخيراً لتنهي قروناً من الحكم الملكي و53 عاماً من الحكم البهلوي.
أصدرت "إسرائيل" في العام 2015 طابعاً بريدياً يحمل صورةً لمعلَم طيني اشتهر باسم "بيان قوروش"، تكريماً للملك الفارسي الذي تعتبره "محرر اليهود"، لكنَّها عجزت قبل 4 عقود ونيّف عن إنقاذ حليفها الشاهنشاه محمد رضا بهلوي؛ سليل الملكية "القوروشية" التي استمرت 2500 عام، وانتهت على يدَي آية الله من خمين. طائرة "النسر" تغادر طهران 16 كانون الثاني/يناير 1979 "أنا متعب جداً". قال الشاه محمد رضا بهلوي قبيل صعوده إلى طائرة البوينغ 707 التي كان يقودها بنفسه، والتي انطلقت صباح الثلاثاء 16 كانون الثاني/يناير 1979. "وفي لحظة انطلاق طائرة الشاه، ضجّت الحشود وكأن مدفعاً رشاشاً أطلق عياراته النارية. واعتباراً من هذه اللحظة، بدا وكأنَّ كلّ شخص هو المسؤول عن أمن البلاد"، كتب الجنرال الأميركي روبرت هايزر، مبعوث البيت الأبيض إلى طهران، في مذكّراته. أيام عصيبة عاشها ضباط الجيش والشرطة السرية (السافاك) في تلك الفترة. غادر بهلوي في رحلة تبدو بلا عودة، وإن كانت الآمال لا تزال معقودة بتدخّل حاسم لإدارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر، الذي لم يكن مهتماً بالشاه بقدر اهتمامه بحماية محطات التجسّس على الاتحاد السوفياتي وطائرات الفانتوم والأسلحة المتطوّرة. كانت رحلة الشاه وزوجته فرح ديبا إلى أميركا للعلاج من السرطان متعثرة إلى حد بعيد. الدول الأوروبية التي كان ينبغي أن تكون محطة له، رفضت استقباله، وإدارة كارتر وافقت على استقباله على مضض بعد ضغوط سياسية قام بها مدير بنك "تشيس مانهاتن" ديفيد روكفلر، الذي وقف وحده لاستقبال الشاه المستقل طائرة "غالف ستريم" بعد هبوطها في مطار "فورت لودرديل" في فلوريدا. نهاية مأساوية لشرطي الخليج أو "النسر"، كما كان يحبّ أن يصف نفسه. كانت رحلة قصيرة إلى الولايات المتحدة التي لم تحتمل كلفة بقاء الشاه على أراضيها، والطامعة بكسب الثورة الإيرانية من خلال تطوير علاقاتها بها (قبل أن يتفجّر الوضع في 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1978 إثر اقتحام سفارتها في طهران)، الأمر الذي اضطرها إلى ترحيله إلى بنما التي استضافته هي الأخرى فترة قصيرة، ليغادر بعد ذلك إلى مصر مع عائلته. "طائرة الثورة" باريس - طهران 01 شباط/فبراير 1979 "كانت اللحظات التي قضيناها في المطار بانتظار طائرة الثورة ثقيلة وصعبة ومقلقة. كانت تسير ببطء شديد، وكانت قلوبنا تخفق بقوة"، كتب رئيس الجمهورية السابق أكبر هاشمي رفسنجاني في مذكّراته. ملايين الإيرانيين (3 ملايين على أقلّ تقدير) تجمَّعوا لاستقبال الإمام العائد من قرية نوفل لوشاتو الفرنسيَّة بعد 14 عاماً من النفي بين النجف والريف الفرنسي، بل إنّ التظاهرات كانت قد سبقت عودة قائد الثورة، ففي الأيام التي تلت الإعلان عن مغادرة الشاه وإقدام حكومة رئيس الوزراء شهبور بختيار على إغلاق المطار بوجه الرحلات الخارجية، اجتمع رجال الدين والسياسة وجمهور من المؤيدين للثورة في مسجد جامعة طهران للمطالبة بفتح مدارج المطار، إلى أن وافقت الحكومة أخيراً على عودة الخميني. خلال رحلة العودة، أعلن أحد ركاب الطائرة أنَّ سلاح الجو الإيراني الموالي للشاه يخطّط لإسقاط الطائرة فور دخولها المجال الجوي الإيراني. عندها، هتف الثوريون العائدون بصحبة الخميني مرحّبين بالشهادة. أما الإمام، فلم يكن يشعر بشيء، وفق ما صرّح للصحافيين الذي كانوا بصحبته في الرحلة.
بعد مفاوضات جرت بين الطيّار وسلطات المطار، أُذن للطائرة بالهبوط على الأراضي الإيرانيَّة، لكنَّ الخطر كان لا يزال يتهدّد الخميني، رغم انتشار المسلّحين الثوريين في أرجاء المطار وعند المداخل الأساسية التي سيعبرها في زيارته إلى جنّة الزهراء (بهشت زهرا)، مثوى الشّهداء الذين سقطوا نتيجة بطش الشاه (بلغ عددهم من تشرين الأول/أكتوبر 1977 إلى شباط/فبراير 1978، أي خلال 14 شهراً، 2781 شهيداً، وفق تقديرات مؤسَّسة الشهيد الإيرانية). كان ضباط الجيش وخدَمة البلاط الملكيّ يتوقَّعون أن يقبل الإمام العائد بحكومة بختيار المشكّلة حديثاً، وأن يفاوضهم على هذا الأساس، لكنَّ الخميني فاجأهم، فقرب أضرحة شهداء الثورة، وبين الجماهير الغفيرة، وأمام وسائل الإعلام العالمية، أعلن قائلاً: "سوف أقوم، بدعمٍ من هذا الشعب، بتشكيل الحكومة". هكذا قلب آية الله الطاولة على رأس بختيار. طائرة بختيار طهران - باريس نيسان/أبريل 1979 قد تكون شخصيّة شهبور بختيار السياسيَّة واحدة من أغرب الشخصيات التي عرفتها إيران في العقود الماضية، فخرّيج القانون من جامعة السوربون الفرنسية لم يستقرّ على موقف واحد، وإن كان قد دفع الكثير من الأثمان نتيجتها. كان بختيار عضواً قيادياً في مجموعة الكفاح القومي التابعة للجبهة الوطنية التي أسَّسها محمد مصدق، الزعيم السياسي الذي اختاره الشَّعب وانقلب عليه الشاه، وشغل منصب وكيل وزارة العمل في حكومته - أي حكومة مصدق - التي حلّها بهلوي بعد عودته من منفاه الإيطالي. وبسبب نشاطه السياسيّ، أودعه الشاه في السجنّ 6 سنوات، ليخرج بعدها ويستلم منصب نائب رئيس الجبهة القومية، ويمارس عمله كمحامٍ يتبنّى الرؤية الليبرالية. ولهذا، فإنَّ تعيينه رئيساً للحكومة قبيل مغادرة الشاه الأراضي الإيرانية، كان مُصمَّماً ليكون طعماً للثوار ريثما يستتبّ الأمن ويعود من منفاه متسلّماً المملكة من جديد، كما فعل في العام 1953 بالتعاون مع الاستخبارات الأميركية. ما لم يتوقّعه بختيار هو أن يكون سماحه بعودة الخميني نهاية نشاطه السياسي في إيران. وقد فوجئ بأن يكون الشعب مهتماً إلى هذا الحدّ باستقبال "رهبر معظم انقلاب إسلامي" (القائد الأعلى للثورة الإسلامية). ولهذا، علّق بعد وصول الخميني قائلاً: "بإمكان أنصار آية الله الخميني أن يهتفوا ويحدثوا الضجيج ويوجّهوا الإهانات، وهذا لا يؤدي إلى شيء. أما مجيء عدة ملايين شخص إلى طهران بغية استقبال آية الله، فهو أمر مبالغ فيه". كانت الأيام التالية لوصول الخميني إلى طهران حاسمة في عمر الثورة. 10 أيام من أجَل جمهورية جديدة، استطاع قائد الثورة والشعب خلالها أن يقوّضوا سلطة بختيار والجيش الذي فقد ثقته بحلفائه القدامى. أعلن آية الله الخميني في 3 شباط/فبراير 1979 تشكيل "المجلس الوطني الإسلامي"، ثم عيّن المهندس القومي مهدي بازركان في الخامس منه رئيساً لحكومة الثورة المؤقتة المعادية لحكومة بختيار، وكلّفه بإجراء استفتاء للرأي العام حول تغيير النظام السياسي للبلاد من الملكي إلى الجمهوري الإسلامي، والتمهيد لإجراء انتخابات نيابية وفق الدستور الجديد بعد المصادقة عليه. في 8 شباط/ فبراير، زار جمعٌ كبيرٌ من قادة القوّة الجوّية الإمام الخميني في مقرّ إقامته، معلنين البيعة له، الأمر الذي دفع جنود الحرس الملكيّ إلى شنّ هجوم عنيف على معسكر القوّة الجوّية في طهران، ما استدعى مساندة الشعب للقوّة المنشقّة والاشتباك مع الجيش.
ساهمت الانشقاقات في صفوف الجيش، لأسباب متعلّقة بالولاء للثورة أو الخوف من حسابها، في تردّد القادة الملكيين باتخاذ خطوات دامية كانت ستسبّب حرباً أهلية بعيدة، إضافةً إلى الموقف المتردّد للإدارة الأميركية والاتحاد السوفياتي من التدخّل لصالح حكومة بختيار والنظام الملكي. وفي اليوم العاشر، استمرَّ الاعتصام أمام جدار معسكر القوة الجوية، واستولى المتظاهرون على بنادق حربية مكَّنتهم بعد ساعات من السيطرة على مركز شرطة طهران بعد ساعات من المواجهة العنيفة مع قوات الحرس الملكي. ولم تنجح محاولات حاكم طهران العسكري في تثبيت حالة الطوارئ تمهيداً للانقلاب على الثورة وتصفية قادتها، بعد إصرار الشعب على البقاء في الساحات. في 11 شباط/فبراير، قدَّم بختيار استقالته، وتبع ذلك سقوط سجن "إيفين" ومقرّ السافاك والمجلسين (الشيوخ والوطني) والإذاعة والتلفزة ورئاسة الوزراء والدرك والشرطة بيد الثوّار. وبدأت المحاكم تعقد في أرجاء إيران لتحكم بالإعدام أو السجن عـلـى قيادات الجيش الموالية للشاه وجميع الرموز السياسية التي تعاونت معه، فيما أعلنت القوات المسلّحة دعمها للإمام الخميني. "انتصرت الثورة"، بثّت إذاعة طهران. الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة وُلدت أخيراً بعد عشرة أيام من وصول الإمام، ليصير الـ 11 من شباط/فبراير 1979 يوماً مجيداً للثورة الإسلامية في إيران. اختفى بختيار عن الأنظار قبل أن يسافر في نيسان/أبريل 1979 إلى باريس ويستقر فيها لقيادة "جبهة المقاومة الإيرانية المعارضة" للحكومة الإسلامية، إلى أن انتهى به الحال مقتولاً في منزله في 6 آب/أغسطس.