مقابر دمشق مغلقة .. لن تعثر على قبر ولو دفعت ملايين ..طابقين .. وع الشارع
تكاد صعوبة الحصول على قبر في دمشق أن تصل حد المستحيل .. وهي مشكلة مستمرة منذ سنوات طويلة وإن كانت الحرب قد فاقمتها. "حتى لو دفعت 15 مليونا لن تجد" يجيب أحد العاملين في مقبرة الدحداح بابتسامة أراد من خلالها أن يظهر استهجانه لسؤالي عن قبر، وإبداء استعدادي لدفع الملايين. يعلق أحد زوار الأموات بالقول إن المقبرة ممتلئة منذ سنوات طويلة، ثم يشير إلى البيوت في الحي "الراقي" الذي تتوسطه المقبرة، يمكنك أن تحصل على بيت هنا (يقدر بمئات ملايين الليرات)، لكن ليس على قبر، ولو بمساحة متر واحد. "لا فائدة من البحث لن تجد" عبارة تسمعها في المقابر حتى وأنت تعرض أموالا، وهذا لا يعني أنك لن تحصل أبدا على قبر، قدر ما يعني أن الأمر قد يستغرق زمنا طويلا، خاصة مع الإجراءات المشددة التي فرضتها المحافظة، بعد إثارة الموضوع مرارا في الصحافة، والحديث عن الملايين التي تُدفع ثمنا لقبر. يقدر عدد المقابر في دمشق بنحو 33، بمساحات تكاد تكون ثابتة منذ عقود، فضاقت حتى أصبحت مغلقة أمام "الوافدين" الجدد. وكما يعايش الأحياء أزمة سكن مستمرة دون حلول، كذلك حال الأموات مع القبور والمساحات الضيقة التي جعلت مصطلحات أزمة السكن وقضاياها تدخل عالم الأموات:
استحقاق الدفن خلف الصمت الذي يخيم على مقبرة باب الصغير، يقع مكتب الدفن الذي لا تهدأ الحركة فيه بحثا عن مكان للدفن أو سعيا لتثبيت ملكية (تعرف رسميا باستحقاق الدفن)، أو رضىً بقبر في مقبرة "نجها" خارج المدينة حيث المساحات متوفرة، والرسوم أقل بكثير. بعض القبور تشير إلى أكثر من شخص، والملكية باسم عائلة غالبا، وكما في عالم الأحياء، يمكن الحديث عن أنواع من الملكية والتنازع عليها، منها ما يتم شراؤه بدفع ملايين (لا تقل عن ثلاثة في أي مقبرة، إن وجد من يبيع)، يضاف إليها نحو أربعة ملايين تفرضها المحافظة رسوما لتثبيت الملكية (استحقاق الدفن) كما قال أحد الذين حصلوا على قبر، وثبتوا ملكيته رسميا. حول ذلك يوضح أحد العاملين السابقين في مكتب الدفن في محافظة دمشق أن الحديث عن "بيع" القبور غير دقيق، ويقول إن المكتب التنفيذي في محافظة دمشق أصدر عام 2018 القرار 1020، بهدف جعل عملية التنازل عن القبور صعبة على الناس، ولهذا وبهدف الحد من تلك العمليات فرض رسما على العملية التي تعرف رسميا بـ "التنازل عن استحقاق الدفن" وهذا الرسم يتراوح بين 3 ـ 4 ملايين ليرة، وهذه القيمة يدفعها من يريد الحصول على "استحقاق دفن" في أحد المقابر، وبعد الحصول على حكم من القضاء، إضافة إلى ما يدفعه لمالك القبر، وبهذا قد تصل التكلفة إلى 7 ملايين ليرة. لكنه يؤكد أن قرار فرض الرسم جعل عمليات التنازل تتراجع بشكل كبير، ولهذا فإن تلك العمليات لا تحدث إلا قليلا إذ لا تتجاوز أربع حالات في السنة. طابقين .. وع الشارع ما دون ذلك، فرضت الحاجة طرقا أخرى، ومصطلحات خاصة: بينما ينشغل موظف بالبحث في سجلات الأموات، تستمر امرأة بتكرار عرض مشكلتها: اتفقت مع أقربائها على أن يحل أحد أمواتهم "ضيفا" على قبر العائلة، فقاموا بوضع شاهدة تشير إلى ميتهم، بالتالي صارت ملكية القبر لهم.
الاستضافة: إحدى الطرق التي فرضتها الحاجة، وتعني دفن ميت في قبر لميت آخر، بعد موافقة الأهل طبعا، وشرط أن يكون مضى سنوات خمس على الدفن. وهذا النوع من الدفن يخلق مشاكل كبيرة بأحقية تملك القبر، لا يمكن حسمها إلا بالقضاء، وبعضها يتعدى مشكلة الملكية ليصل حد فقدان أثر المتوفى، كما جرى مع أحد الذين مازالوا في رحلة "تثبيت ملكية"، ويقول إنه حصل على موافقة بدفن قريب له بوصفه "ضيف" في أحد القبور، مقابل مليوني ليرة، وفوجئ بأن أصحاب القبر يريدون قبول "ضيف" آخر (بعد مضي سنوات كافية لتحلل الجثة)، وحين اعترض قالوا له إن المبلغ الذي دفعه لم يكن لشراء القبر، بل فقط لقبول "الاستضافة". إضافة إلى طريقة الاستضافة، تجد قبورا بوصف "طابقين"، أو "خاص"، فأزمة الدفن فرضت نوعا آخر من الحلول هو تصميم القبر على شكل "طابقين" ليستوعب اثنين من الأموات، كما تجد على شاهدة بعض القبور كلمة "خاص" وهي غالبا لا تحوي ميتا بل تم "شراؤها" لتكون قبرا لعائلة، أو أن شخصا اشتراه في حياته ليكون مستقره الأبدي. جهة إشراف .. وأجور رمزية ضغط مراجعين .. واتصالات لا تهدأ، هي الحال في غرفة مدير مكتب الدفن في محافظة دمشق فراس إبراهيم الذي يقول إن المكتب يقوم بالإشراف على المقابر وعمليات الدفن ويشدد على أن ما يتم تداوله عن عمليات بيع لا صحة له، "فالقبور لا تباع لأنها وقف" ويوضح أن "ما يجري هو عمليات تنازل بين الأقارب عن استحقاق الدفن أو استضافة، فأصحاب القبر قد يتنازلون عنه لآخر، وهذا يتم عن طريق القضاء كأي ملكية أخرى ولا علاقة للمكتب بها".
وعن سبب ارتفاع الأسعار وعمليات التنازل التي تتم، يقول إبراهيم إن المساحات المخصصة كمقابر في دمشق ممتلئة ومنذ سنوات، لأن معظم الأهالي يفضلون دفن موتاهم ضمن المدينة وهذا يشكل ضغطا كبيرا، ويشير إلى أن مقبرة نجها تحوي مساحات كافية وتتسع لآلاف القبور الجاهزة والمنظمة، لكن الناس يفضلون المدينة. وعن التكاليف التي تتقاضاها المحافظة يقول إبراهيم إن رسوم التخصيص تعادل 65 ألف ليرة تقريبا، أما عن أجور الدفن فيقول إن ما يدفعه المواطن أقل من تكلفة الدفن التي تتحملها المحافظة إذ أن التكلفة قد تصل إلى 50 ألف ليرة تقريبا لكل وفاة، بينما يدفع المواطن ما يقارب 33 ألف ليرة، ويؤكد أن تلك الرسوم يستثنى منها الشهيد إذ أن عملية دفن الشهداء مجانية بالكامل، وبما يشمل التخصيص بالقبر إضافة إلى كل متطلبات مراسم الدفن، بحيث لا يتكلف أهل الشهيد أي عبء، ويشير إلى وجود مقبرتين للشهداء في دمشق. "نجها" .. خيار توسع ومع ضيق المساحات وندرة المستعدين للتنازل عن "استحقاق الدفن" داخل العاصمة، وما نتج عنها من حديث بالملايين عن بضعة أمتار مربعة، تبدو الحلول في اتجاهين: إما موافقة من المحافظ على تخصيص بالدفن داخل المدينة، أو التوجه إلى مقبرة نجها التي يتوجه إليها كل من لا يعثر على قبر في المدينة، فهناك سهولة في العثور على قبر وبرسوم أقل، سواء في التخصيص أو مراسم الدفن (تبلغ نحو 75 ألف ليرة).
أغلب من التقيناهم في مكتب الدفن، يقولون إن الدفن في مقبرة نجها هو الخيار الأفضل، فالعثور على قبر داخل المدينة ليس متاحا حتى بدفع الملايين، وكذلك ليست متاحة موافقة المحافظ، ويقول أحدهم إن لدى عائلته قبرين في المدينة، لكن وفاة جديدة جعلتهم يتوجهون إلى نجها، إذ لم تمض بعد خمس سنوات على المتوفى سابقا، إضافة إلى أسباب أخرى منها أن "المتوفى لن يعود للحياة إن دفن في المدينة" كما قال، و"سواء دفنته هنا أو هناك .. ما الفرق بالنسبة إليه؟" حين كنت أسأل أحد العاملين في تجهيز القبور، قال مقترحا نجها: "هناك أفضل .. بتاخد أحلى قبر وع الشارع .. والسيارة تصل إليه، وبأسعار أقل بكتير" وفيما بدا تكثيفا لخلاصة تجربة في التعامل مع الأحياء والأموات، قال: "لماذا يدفع الناس الملايين ثمن قبر، هل يشعر الميت بذلك؟ إنهم يدفعون من أجلهم هم، وليس من أجل من رحل، الميت ميت سواء في قبر بملايين أو مجانا" ثم يتوجه إلي باقتراح: "تبرع بالملايين التي ستدفعها ثمنا لقبر .. كرمال اللي ما عم يلاقوا لقمة"