قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في خطاب عام مؤخرا: "إن تركيا بلد يجب أن يستمر فيه الإنتاج ويجب أن يستمر دوران التروس تحت أي ظرف وفي كل الظروف"، بحسب ما جاء في مقدمة مقابلة صحافية مع البروفيسور إيماره ألتنيدس، أستاذ علم الأحياء في جامعة بوسطن، والذي كان يدرس الأوبئة في تركيا، أجراها إسحاق تشوتينر الكاتب الصحافي في مجلة "نيويوركر" الأميركية، والذي يبدي تعجبه من أن تصدر مثل هذه التصريحات عن رئيس دولة، تشهد أسرع وتيرة لتفشي جائحة كورونا على مستوى العالم بالمقارنة مع تعداد سكانها. شهدت تركيا حتى الآن وفاة أكثر من 500 مريض كوفيد-19، فضلا عن تأكيد إصابة أكثر من 24 ألفا آخرين.
يعزى تزايد أعداد الضحايا والمصابين إلى موقف أردوغان نفسه، الذي قاوم اتخاذ إجراءات عاجلة، مكتفيًا فقط بالدعوة إلى مجرد "حجر صحي طوعي" في تركيا. وفي الوقت الذي نادى فيه السياسيون المعارضون باتخاذ إجراءات أكثر صرامة ضد فيروس كورونا، أسوة بإجراءات الحظر والإغلاق التي دخلت حيز التنفيذ في جميع أنحاء العالم، تم تجاهل آرائهم ودعوتهم، مثلما تمت محاصرتهم وتهميشهم بشكل متزايد في السنوات الأخيرة، في سياق محاولات أردوغان لبسط نفوذه وتمديد قوته بإلقاء خصومه في السجن.
وفي الأسبوع الماضي، قامت حكومة أردوغان بالقبض على مئات من المواطنين الأتراك، لمجرد قيامهم بالتعبير عن انزعاجهم من تفشي الفيروس بشكل سريع للغاية في تركيا عبر منصات التواصل الاجتماعي. وأجبرت السلطات التركية مهنيين طبيين، ممن حثوا على اتخاذ إجراءات أكثر صرامة، على إصدار اعتذارات عقب إلقاء القبض عليهم.
وذكر تشوتينر أنه تحدث هاتفيا مع البروفيسور ألتنيدس، وهو أيضًا أحد محرري كتاب "الاستبداد والمقاومة في تركيا: محادثات حول التحديات الديمقراطية والاجتماعية"، لمناقشة كيف أثرت خصخصة أردوغان للنظام الطبي على الاستعدادات لمكافحة جائحة كورونا في تركيا وكيف غيرت أزمة اللاجئين السوريين المجتمع التركي، فضلا عن أخطار محدقة بتفشي الجائحة في السجون التركية، المزدحمة بمئات الآلاف من المعتقلين السياسيين.
يرى البروفيسور ألتنيدس أن هناك زيادة سريعة، بشكل كارثي، في معدلات الإصابة بكوفيد-19 والوفيات في تركيا، منوها بأنه لا توجد شفافية لدى الحكومة التركية، وبالتالي ربما لا تكون الأمور على أرض الواقع مثلما يتم الإعلان عنه في التصريحات الرسمية.
ويعرب البروفيسور ألتنيدس عن اعتقاده بأن هناك طريقتين مختلفتين لاحتواء الجائحة في العالم الآن، وفقا لنموذجين ناجحين، أولهما في كوريا الجنوبية، التي قامت بإجراء اختبارات جماعية، وصلت إلى 20 ألفاً يوميًا، بإجمالي 350 ألف اختبار كوفيد-19 حتى 20 مارس، فيما لم يزد عدد الاختبارات في تركيا، التي يبلغ عدد سكانها 80 مليون نسمة، عن 92 ألفًا فقط.
ويستطرد البروفيسور ألتنيدس قائلا إن النموذج الثاني، الذي طبقته الصين بنجاح في ووهان، ويتم تنفيذ سيناريوهات مماثلة في كاليفورنيا وفرنسا، وبوسطن أيضًا، يستلزم وقف العمل بالمؤسسات والشركات والمرافق غير الحيوية بشكل مباشر لحياة المواطنين، وهو ما لم يحدث في تركيا. وكشف البروفيسور ألتنيدس أنه على الرغم من قرار إغلاق المطاعم والمدارس، فإن الملايين من أبناء الطبقة العاملة مضطرون للذهاب إلى العمل يوميًا في تركيا [أكثر من 40 قرية صغيرة وبلدة في تركيا تخضع للحجر الصحي، ولكن حتى نهاية الأسبوع، لم يكن هناك أي شكل من أشكال الحظر في أي مدينة تركية، من بينها إسطنبول، التي شهدت سقوط أكبر عدد من حالات كوفيد-19].
ويوضح البروفيسور ألتنيدس أن هؤلاء الأشخاص، يحملون الفيروس وينقلون العدوى إلى أشخاص ينتمون لمجموعات عالية الخطورة، عندما يعودون إلى منازلهم حيث يتواجد الآباء والأجداد وأصحاب الأمراض مزمنة مثل مرض السكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض الرئة المزمنة أو أمراض الكلى، وبالتالي لم يمكن تقليل انتشار العدوى.
ويضيف البروفيسور ألتنيدس أنه حتى اليوم وصل عدد الحالات المؤكدة، بحسب المعلن رسميا، إلى أكثر من 24 ألف شخص، ولكن هذا هو بالفعل ما يمكن وصفه بـ"قمة جبل الجليد"، لأن هؤلاء الـ24 ألفًا أصيبوا بشكل كبير قبل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع. إن مدة حضانة الفيروس تظهر الأعراض خلال حوالي ستة أيام، أي أن هؤلاء ظهرت عليهم الأعراض، ومن ثم توجهوا إلى المستشفى، ولكن في غضون ذلك، استمر انتقال عدوى الفيروس إلى الكثيرون حولهم، مما يعني أن الحال سيكون أسوأ خلال الأسبوعين المقبلين.
ويسلط البروفيسور ألتنيدس الضوء على مشكلة أخرى، على خلفية ما صرح به وزير الصحة التركي، قبل عدة أيام، عندما كان عدد الحالات المؤكدة لا يزيد عن ستة آلاف حالة فقط، بأن 63% من وحدات العناية المركزة تم شغلها في تركيا، واليوم تضاعف عدد المصابين لأربعة أضعاف، مما يعني أنه لا يوجد موطئ قدم لوحدات العناية المركزة بينما تفيد المؤشرات بأن هناك طفرة متوقعة لأعداد المصابين بالعدوى، نتيجة لإصرار أردوغان على إغفال البعد الصحي والاجتماعي والتركيز على الشق الاقتصادي فحسب.
وفي تعقيب على لسان تشوتينر يقول: إن كان هناك الكثير من القطاعات في تركيا، من بينها الأوساط الإعلامية والصحافية والأكاديمية والسياسية، التي تم تجريفها، بسبب الزج بأعداد كبيرة منهم في معتقلات أردوغان، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة.
يتوجه تشوتينر بالسؤال إلى البروفيسور ألتنيدس عما إذا كان الأمر ينطبق على المجالات العلمية والطبية
ويجيب ألتنيدس قائلا: أولاً وقبل كل شيء، يمكن مقارنة تركيا بالدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، فعلى سبيل المثال يوجد في إيطاليا 2.5 ضعف الأطباء والممرضات لكل ألف مواطن مقارنة بتركيا، بل ويمكن القول بأنه تقارن تركيا بأي دولة أخرى، فإنها تمتلك عددا أقل من الأطباء والممرضات لكل مواطن. بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، فقد الكثير من المهنيين وظائفهم في العديد من القطاعات، ومن بينهم الأطباء والممرضات، كما فقد العديد من الأساتذة في كليات الطب وظائفهم بسبب التوقيع على عريضة المطالبة بالسلام مع الأكراد. ويضاف لهذا أن عدم قيام الحكومة بتوفير مستلزمات الوقاية للأطباء وطواقم التمريض أدى إلى إصابة 75 طبيبًا حتى الآن بالعدوى أثناء تأدية عملهم في مكافحة الجائحة.
ويمضي البروفيسور ألتنيدس قائلا إن عدد سكان تركيا بالفعل ثمانون مليونا، مضافًا إليهم أربعة ملايين لاجئ، بما يعني مئات الآلاف من المرضى المحتملين الجدد في المنظومة الطبية، التي شهدت خصخصة الكثير من مستشفياتها على يد حكومة أردوغان، ولهذا فإن المحصلة هي إضعاف المنظومة الصحية التركية ككل. وعلى الرغم مما يشاع بأن تلقي العلاج في تركيا هو حق وليس خدمة مقابل المال، فإنها لا تكفي وأضعف من أن تلبي الاحتياجات.
العنف ضد الأطباء
ويستشهد البروفيسور ألتنيدس بمحادثات له مع بعض الأطباء الأتراك والذين كانوا بادئ ذي بدء يشكون من توفر المعدات والتجهيزات ومستلزمات الوقاية من العدوى للأطقم الطبية بالإضافة لانعدام الشفافية. وعلى سبيل المثال، يقوم الأطباء بإجراء اختبارات تظهر نتائجها في غضون أربعة أيام، فيما يريدون الحصول على النتائج في نفس اليوم، وسط أجواء من القلق الشديد بسبب العنف الذي يرتكبه أقارب بعض المرضى ضدهم، دون ذنب من جانبهم أو حماية لهم.
قبل الجائحة مباشرة، كانت الجمعية الطبية التركية تخطط لتنظيم مناسبة كبيرة في أنقرة للاحتجاج على العنف ضد المهنيين الطبيين، وتساورهم حاليًا مخاوف شديدة من أن امتلاء وحدات العناية المركزة بالمرضى سيشهد مزيدا من الوفيات وهو الأمر الذي سيترتب عليه زيادة العنف.
ويختتم البروفيسور ألتنيدس حديثه مشيرا إلى أن هناك ما يقرب من 300 ألف سجين في معتقلات أردوغان، من بينهم الكثيرون ممن هم أكبر من 60 عاما، والعديد من أصحاب الأمراض المزمنة، علاوة على أعداد ضخمة من الصحافيين والسياسيين والطلاب والمحامين، ولكن يتم استثناء المعتقلين السياسيين على وجه التحديد من أي إشارة لأي توجه من جانب حكومة أردوغان بشأن المساجين، في الوقت الذي أفادت فيه الأخبار في نيويورك بوجود إحصائيات بحوالي سبعة وعشرين شخصًا من كل ألف مصاب بعدوى فيروس كورونا في السجون، لذلك يجب التفكير بشكل أكثر جدية في مصير هؤلاء الأشخاص في المعتقلات أيضًا. إن تركيا بحاجة إلى الإصلاح.