تعدّ أحياء غرب لندن مقصدًا للمستأجرين الفاحشي الثراء، حيث المراكز التجارية والسفارات الأجنبية وقصر الأسرة الملكية، وتشهد تلك الأحياء الراقية في الوقت ذاته على حياة ماري دايفيز المنسية، ومستقبل الأرض التي كانت مهرًا لها، وسببًا لوفاتها وحيدة في مصحة عقلية.
قضى طاعون لندن العظيم على ربع سكان العاصمة البريطانية عام 1665، ليفكر المعماريون في توسعة العاصمة ضمانًا للتباعد الاجتماعي ومنعًا للأوبئة المستقبلية.
وامتدت حدود العاصمة الجديدة غربًا نحو الريف فارتفعت إيجارات الأراضي الزراعية، وظهرت طبقة غنية بين الريفيين. استغلت أسرة ماري دايفيز الريفية تلك الفرصة، فسعت لربط اسمها المتواضع بالطبقة الأرستقراطية التي حالفها الحظ، فبدأت في التوسط لزواج الطفلة ماري وهي في الثامنة من عمرها.
واتفقت العائلة مع رجل ثري لتزويج ابنتها بابنه بعد بلوغها السن القانونية للزواج (12 سنة في ذلك الوقت). دفع الثري 5 آلاف جنيه إسترليني دفعة مهر أولى فأنفقت عائلة ماري المبلغ في بناء قصر، ثم طلبت من الرجل قطعة أرض لإثبات جديته، فأهدى إلى أهل العروس 300 فدان من المستنقعات، لكن الخطبة فشلت لعجزه عن تقديم مزيد من الأراضي.
فشل أهل ماري أيضا في رد المهر، وانتظروا إلى أن تقدم السير توماس غروسفينور لخطبة ماري، فدفع لوالدها ووالد العريس السابق بسخاء، لحل الخطبة الفاشلة، لكنه لم يحصل على فتاة لطيفة فحسب، بل فاز بـ300 فدان من المستنقعات صارت ملكًا له بعد الزواج.
وتزوج الاثنان عام 1677، وأنجبا 5 أطفال، وحوّل غروسفينور المستنقعات إلى مزارع وبساتين وضاعف ثروة الأسرة إلى أن توفي عام 1700 عن عمر ناهز 45 عامًا. ثم توفيت ماري وحيدة وفقيرة في مصحة عقلية بعد أمر من المحكمة، وبعدما حرّك ورثة زوجها دعوى استحقاق ضدها، ولا يخلّد اسمها اليوم إلا أحد الشوارع الأقل فخامة في لندن.
مستنقعات تدرّ ذهبًا
في القرن الـ19 وصف الكاتب الأميركي إدغار آلان بو مستنقعات عائلة غروسفينور بـ"النفايات الرطبة، والقاحلة، والنتنة"، وهي عبارة تحقير تفخر بها العائلة اليوم على موقع مجموعة شركاتها الرسمي، في إشارة إلى عظمة الجهد الذي بذله أفرادها وتحويلهم "النفايات النتنة" إلى أغلى أراض في بريطانيا.
وتروي عائلة غروسفينور قصة نجاحها باعتبارها من أوائل الشركات العقارية في العالم؛ فمع استمرار التوسع في لندن في القرن الـ19، استصلحت العائلة أراضي مزارعها وبنت عليها عقارات، لتصبح من أكثر المناطق السكنية طلبًا في لندن وموقعًا مفضلًا لكثير من السفارات ومركزًا للنشاط السياسي لاقترابها من مجلسي البرلمان والقصر الملكي.
لم تكتف العائلة بمسيرتها العقارية، بل تشابكت مصالحها مع الوسط الثقافي؛ فناسبت مخترع الهاتف غراهام بيل، وتولّت 5 أجيال من العائلة رئاسة تحرير وإدارة مجلة "ناشيونال جيوغرافيك"، وأسهمت في تطوير الخط التحريري للمجلة وبناء مجمع لها في واشنطن.
كما ارتبطت عائلة غروسفينور بعلاقات طيبة مع العائلة البريطانية المالكة؛ فمنحت الملكة فيكتوريا دوقية ويستمنستر لهيو غروسفينور عام 1874، على الرغم من عدم نسبه للأسرة الملكية، ثم ورثت 5 أجيال الدوقية من غروسفينور. كذلك اختار الأمير وليام -الابن البكر للملك تشارلز الثالث- وريث عائلة غروسفينور الحالي ليكون أبًا روحيًّا لابنه الأمير جورج الذي وُلد عام 2013.
احتكار الذكور للثروة
صنف مؤشر بلومبيرغ للمليارديرات ثروة عائلة غروسفينور، في ديسمبر/كانون الأول 2021، على أنها الأكبر بين ثروات عائلات الطبقة الأرستقراطية في بريطانيا.
وقدّر المؤشر ممتلكات العائلة بنحو 11 مليار جنيه إسترليني بين أراضٍ ريفية ذات تربة خصبة وعقارات سكنية في 60 دولة وجزء كبير من وادي السيليكون، بخلاف اللوحات الفنية التي جمعتها الأسرة عبر قرون ولا يوجد تقدير رسمي لثمنها.
وامتلك ذكور العائلة وحدهم الثروة على مدار 4 عقود بفضل قانون أملاك غروسفينور البرلماني عام 1933 الذي منح الذكور حق الانفراد بالميراث وإدارة الأملاك، وصار من بين الذكور أغنى الرجال في العالم في سن صغيرة، في حين لم يسمح لشقيقاتهم بشغل وظيفة في شركات العائلة.
وبعد 345 عاما، اضطرت مجموعة "غروسفينور" إلى تغيير موقفها المتحيّز من أجل تحسين وضع الشركة في تقارير الفجوة المهنية بين الجنسين في الأعوام المقبلة.
ونشرت صحيفة "بلومبيرغ" في مطلع أغسطس/آب الماضي بيانًا بتحسن وضع النساء في "مجموعة غروسفينور"، وتعيين نصف نساء العائلة، البالغ عددهن 13 امرأة، في مناصب قيادية عليا بالمجموعة في نهاية العام الماضي.
ومع ذلك، ما زالت الشقيقات يتقاضين أجرًا أقل بمتوسط 38% من أشقائهن على عملهن في المناصب ذاتها.