مع اقتراب العام 2023 من نهايته، وحلول عام جديد، يواجه العالم وخاصة صناع النقل البحري أزمات كبيرة في أكبر ممرين مائيين أو قناتين للمحيطات حول العالم.
ممران مائيان عالميان يصابان بـ"الشلل"، الأول والأكثر أهمية استراتيجية للعالم العربي، يقع في قلب الشرق، والممثل في قناة السويس المصرية، والآخر يقع في أقصى الغرب، على بعد 7200 ميل في قناة بنما، ولكل منهما أسباب مختلفة ومتعددة للأزمة.
ومع اندلاع أزمة الملاحة البحرية في الممرين البحريين، تبقى النتائج والتداعيات مؤثرة بشكل سلبي على عمليات الشحن البحري العالمية وحركة التجارة العالمية، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع فواتير الشحن وتعزيز أسهم شركات الشحن، وهو ما يفضي إلى ارتفاع أسعار كثير من السلع والمواد الأساسية حول العالم، خاصة وأن الأمر لم يتوقف عند حد حركة التجارة البحرية، ولكنه سيعرقل الخدمات اللوجستية لشركات النقل البري التي تعتمد على جداول النقل البحري أيضا.
قناة بنما
على بعد نحو 7200 ميل إلى الغرب، تتعرض قناة بنما للتعطيل بسبب الجفاف، وهي أزمة منسوبة إلى الأحوال الجوية وظروف المناخ، حيث تواجه القناة انخفاضا في مستويات المياه بشكل غير مسبوق ما حدّ من عبور السفن.
ويذكر أن نحو 6 % من حجم التجارة البحرية الدولية السنوي يمر عبر قناة بنما، وعبر 510 ملايين طن من البضائع هذه القناة في العام 2023، أي أقل بثمانية ملايين طن عن العام السابق.
فيما تراجع عدد السفن التي عبرت ترانزيت من 13003 سفينة إلى 12638. ويعود هذا التراجع إلى تدابير اتخذتها هيئة القناة للحد من حركة السفن بسبب انخفاض مستوى المياه الناجم عن التغير المناخي وظاهرة "إل نينيو"، خاصة وأن قناة بنما تعتمد بشكل كامل على المياه التي تجمعها من الأمطار.
الممر المائي في قناة السويس
مع بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، آثرت جماعة "أنصار الله" اليمنية دعم حركة "حماس" في القطاع، فشرعت في إطلاق الصواريخ بعيدة المدى والطائرات المسيرة على مدينة إيلات الإسرائيلية الواقعة على البحر الأحمر.
وأعلنت "أنصار الله"، في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، "بدء اتخاذ إجراءات عملية للتعامل المناسب مع أي سفينة إسرائيلية في البحر الأحمر"، مشددة على أن "العمليات ضد إسرائيل لن تتوقف حتى يتوقف عدوانها على غزة".
وبدوره، أعلن زعيم جماعة "أنصار الله" اليمنية، عبد الملك الحوثي، في العاشر من أكتوبر الماضي، أن جماعته ستشارك بهجمات صاروخية وجوية و"خيارات عسكرية أخرى" إسنادًا للفصائل الفلسطينية في مواجهة الجيش الإسرائيلي في غزة، حال تدخل الولايات المتحدة عسكريًا بشكل مباشر في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في القطاع.
وتركت هذه الخطوة الأثر البالغ على حركة الملاحة البحرية في البحر الأحمر، فضلا عن مهاجمة "أنصار الله" للسفن التجارية الإسرائيلية أثناء إبحارها عبر اليمن في طريقها إلى أو من قناة السويس المصرية، دعما للشعب الفلسطيني في غزة.
عملية "حارس الازدهار"
وكان وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، قد أعلن، في 18 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، تشكيل قوة متعددة الجنسيات بقيادة واشنطن تحمل اسم "عملية حارس الازدهار" لتأمين الملاحة في البحر الأحمر، وقال إنها "مبادرة أمنية جديدة ومهمة متعددة الجنسيات، أُنشأت تحت مظلة القوات البحرية المشتركة وقيادة قوة المهام المشتركة 153 التابعة لها والتي تركز على تأمين البحر الأحمر".
وأضاف أوستن أن القوة متعددة الجنسيات ستضم عدة دول بينها، بريطانيا، والبحرين، وكندا، وفرنسا، وإيطاليا، وهولندا، والنرويج، وإسبانيا، وسيشل، للتعامل مع التحديات الأمنية في جنوب البحر الأحمر وخليج عدن، وضمان حرية الملاحة. وبحسب المهام المعلنة عن العملية فإنها ستتولى "مواجهة التحديات الأمنية، وضمان حرية الملاحة ومنع استهداف السفن العابرة من مضيق باب المندب"، وسيكون نطاق عمل القوات المشاركة في العملية هو جنوب البحر الأحمر وخليج عدن. وردت "أنصار الله" على الإعلان الأمريكي بالتأكيد أنها رفضت التواصل المباشر مع واشنطن بهذا الشأن، وقالت إن ردها العسكري سيكون غير مسبوق وأنه سيتم إغراق السفن الأمريكية وتحويل البحر الأحمر إلى مقبرة لها إذا أقدمت واشنطن على أي عمل عسكري ضد، مؤكدة مواصلة استهداف السفن المتجهة لإسرائيل أيا كانت جنسيتها حتى تتوقف الحرب في غزة.
رأس الرجاء الصالح
ودفعت خطوة "أنصار الله" بمئات سفن الحاويات إلى تحويل مسارها إلى طريق رأس الرجاء الصالح حول القارة الأفريقية، أو إيقافها في انتظار تعليمات جديدة لتجنب الهجمات في البحر الأحمر، وهو ما يشير إلى أن التوترات الجارية في البحر الأحمر قد ترفع قيمة شركات الشحن بـ22 مليار دولار. ومن جانبها، أعلنت شركة الشحن الدنماركية العملاقة "ميرسك"، التي تسيطر على نحو 14.8% من إجمالي التجارة العالمية بالحاويات، أنها قررت إيقاف رحلاتها في البحر الأحمر بسبب هجمات "أنصار الله". وقالت الشركة: "وجهنا جميع سفن ميرسك التي من المفترض أن تمر عبر باب المندب بتعليق طريقها حتى إشعار آخر". وقال موقع "غلوبس" الاقتصادي الإسرائيلي: "يشكل قرار ميرسك أهمية كبيرة للتجارة مع أوروبا وليس فقط مع إسرائيل، لأن الدوران حول أفريقيا - بدلا من الإبحار عبر قناة السويس - يضيف نحو 18 يوما إلى طول سلاسل التوريد. وفي الوقت نفسه، تعد هذه بداية ضربة اقتصادية قاسية لمصر، التي يمثل مكون قناة السويس فيها نحو 2% من ناتجها المحلي الإجمالي".
فرض تكاليف إضافية
وأشار الموقع الاقتصادي إلى أن الشركة كانت قد أعلنت في بيان سابق أنه اعتبارًا من 8 يناير/ كانون الثاني، سيتم فرض تكاليف إضافية على الشحنات إلى إسرائيل. وسيكون نطاق الزيادة في الأسعار 50 دولارًا للحاويات سعة 20 قدمًا، و100 دولار للحاويات سعة 40 و45 قدمًا. وبحسب "غلوبس": "يعد باب المندب نقطة مهمة في الإبحار بين قناة السويس ومضيق هرمز، وهما من أكثر الممرات الملاحية الخمسة ازدحاما في العالم. يمر 12% من إجمالي التجارة العالمية و30% من حركة الحاويات الدولية عبر قناة السويس، ويمر عبر مضيق هرمز 21 مليون برميل من النفط يوميًا. ونحو 14% من التجارة البحرية في العالم تتحرك في البحر الأحمر نفسه". وبحسب الموقع، فإن "نحو 30 ألف سفينة سنوياً لا تستطيع فعلياً تجنب الحوثيين (جماعة أنصار الله) في منطقة باب المندب، حيث يمر أكثر من 50 مليون طن من الحبوب و6.2 مليون برميل من النفط يومياً". وكان إريك مارتن نوفيل، نائب الرئيس التنفيذي للشحن في شركة "Geodis"، وهي شركة لوجستية أخرى، قد قال إن "السفن التي يتعين عليها الآن السفر حول رأس الرجاء الصالح ستقضي نحو 60 يوما في السفر من الصين إلى أوروبا مقارنة بـ 40 يوما عبر قناة السويس". وشدد نوفيل على أن التكاليف قد تصل إلى 4-5 أضعاف، وهذه التقديرات تنطبق أيضا على شركات الشحن من آسيا إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة.
ويواصل الجيش الإسرائيلي عمليات عسكرية ضد قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حينما أعلنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي تسيطر على القطاع بدء عملية "طوفان الأقصى"، حيث أطلقت آلاف الصواريخ من غزة على إسرائيل واقتحمت قواتها مستوطنات إسرائيلية متاخمة للقطاع، ما تسبب بمقتل نحو 1200 إسرائيلي علاوة على أسر نحو 250 آخرين. وردت إسرائيل بإعلان الحرب رسميا على قطاع غزة، بدأتها بقصف مدمر ثم عمليات عسكرية برية داخل القطاع، أسفرت حتى الآن، عن سقوط قرابة 20 ألف قتيل وأكثر من 52 ألف جريح، غالبيتهم من الأطفال والنساء، فيما لا يزال أكثر من 7 آلاف مفقود تحت الأنقاض الناتجة عن القصف الإسرائيلي المتواصل لأنحاء القطاع. وتخللت المعارك هدنة دامت 7 أيام جرى التوصل إليها بوساطة مصرية قطرية أمريكية، تم خلالها تبادل أسرى من النساء والأطفال وإدخال كميات متفق عليها من المساعدات إلى قطاع غزة، قبل أن تتجدد العمليات العسكرية في الأول من ديسمبر/ كانون الأول الجاري.