ماكرون يطالب رئيس الوزراء بالبقاء في منصبه.. وفرنسا تنتقل من اليمين إلى اليسار في أسبوع واحد
طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من رئيس الوزراء غابرييل أتال الذي أتى لمكتبه لتقديم استقالته، البقاء في منصبه "في الوقت الراهن لضمان استقرار البلاد"، بعد الانتخابات البرلمانية التي فقد فيها المعسكر السياسي للحكومة دوره كأقوى تحالف في البلاد لصالح اليسار في برلمان معلق، وتزامن ذلك مع بدء الطبقة السياسية المداولات لتعيين رئيس للوزراء. وأعلن القصر الرئاسي في بيان أن ماكرون شكر أتال على قيادته حملتي الانتخابات الأوروبية والتشريعية. وأشار أتال بالفعل أمس الأحد إلى أنه سيتخذ هذه الخطوة، في اتباع للتقاليد السياسية الفرنسية، قائلا إنه مستعد للبقاء في منصبه لفترة أطول كقائم بالأعمال لكن الأمر متروك للرئيس للبت فيه.
بدء المداولات
وبعد المفاجأة التي أتت بها نتائج الانتخابات التشريعية مفرزة جمعية وطنية مشرذمة بين 3 كتل، تبدأ الطبقة السياسية الفرنسية المداولات لبناء غالبية مجهولة المعالم وتعيين رئيس للوزراء. وكان يتوقع أن يتصدر أقصى اليمين الدورة الثانية من الانتخابات التشريعية إلا أنه حل ثالثا، بعدما تشكلت "جبهة جمهورية" من جانب اليسار والوسط في الفترة الفاصلة بين الدورتين الانتخابيتين، حرمته من الوصول إلى السلطة، إلا أنه حقق تقدما لافتا مع توقع حصوله على 135 إلى 145 نائبا. ومن دون حصول أي طرف على الغالبية المطلقة وحلول تحالف يساري هش في الصدارة يتعيّن عليه الصمود أمام تحدي وحدة الصف، ومعسكر رئاسي استطاع إنقاذ ماء الوجه، لكنه لا يمكنه الاستمرار بمفرده، تجد فرنسا نفسها في أجواء غير مسبوقة مطبوعة بعدم اليقين. وتحدت الجبهة الشعبية الجديدة (أقصى اليسار) التوقعات، وأصبحت القوة الأولى في الجمعية الوطنية مع 177 إلى 198 نائبا متقدمة على المعسكر الماكروني، وإن كانت تبقى بعيدة عن الغالبية المطلقة المحددة بـ289 نائبا، لكنها قد تثبت سريعا أنها قوة لا يمكن الالتفاف عليها. إلا أن الحزب الرئيسي فيها، فرنسا الأبية الذي ينتمي إلى أقصى اليسار، هو محور توترات كثيرة بزعامة جان لوك ميلانشون الاستفزازي لكنه يتمتع بكاريزما معينة، ينفر حتى البعض في صفوف معسكره.
من يرأس الوزراء؟
ودعت النائبة عن فرنسا الأبية كليمانتين أوتان نواب الجبهة الشعبية الجديدة إلى الاجتماع "في جلسة عامة" لاقتراح مرشح لرئاسة الوزراء على ماكرون "لا يكون (الرئيس السابق الذي انتخب نائبا الأحد) فرنسوا هولاند ولا جان لوك ميلانشون". وتمنت أن "تكون الجبهة الشعبية الجديدة على تنوعها، قادرة على القول إنها قبة الميزان التي تسمح بالحكم". أما النائب فرنسوا روفان الذي انفصل نهائيا عن فرنسا الأبية، فدعا من جهته إلى الحكم "بلطف"، في انتقاد مبطن لميلانشون الذي سبق وترشح 3 مرات للانتخابات الرئاسية، والذي يصفه بأنه من أنصار "الغوغاء والغضب". وحققت الغالبية الرئاسية التي حلت ثانية بعدما صمدت بشكل غير متوقع، 152 إلى 169 نائبا. وأعلن قصر الإليزيه مساء الأحد أن ماكرون الذي لم يعلق رسميا بعد، سينتظر تشكيلة الجمعية الوطنية ليقرر من سيعين في منصب رئيس الوزراء. أما التجمع الوطني، فقد حقق تقدما في البرلمان لكنه تخلف كثيرا عن الغالبية النسبية أو المطلقة التي كان يحلم بها. والتجمع الوطني هو القوة الوحيدة التي حسمت أنها ستكون في معسكر المعارضة لكن مع صوت أقوى داخل الجمعية الوطنية.
في أسبوع واحد.. فرنسا تنتقل من اليمين إلى اليسار
قبل أسبوع واحد، بدا اليمين المتطرف أقرب ما يكون إلى السلطة، بعدما حقق أكبر نسبة من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية المبكرة. لكن الحال انقلب رأسا على عقب -كما يبدو- من النتائج الأولية لجولة الإعادة. الجولة الأولى التي جرت في الثلاثين من يونيو/حزيران، شهدت تحقق ما ظل الفرنسيون بل والأوروبيون يخافونه على مدار عقود، حيث قفز إلى موقع الصدارة حزب "التجمع الوطني" الذي يمثل أقصى اليمين بعدما حصد نحو 33% من الأصوات، مقابل نحو 28% لتحالف اليسار الذي يعرف بالجبهة الشعبية الوطنية ويضم الاشتراكيين واليسار المتطرف والخضر. أما معسكر يمين الوسط "معا من أجل الجمهورية" الذي يقوده الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون فقد تقهقر إلى المركز الثالث بعدما اكتفى بـ20% من أصوات الناخبين. لكن الأيام التالية لهذه النتائج شهدت حالة من الهلع في فرنسا، وذلك إزاء ما اعتبره الكثيرون خطرا محدقا حال وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، وهو ما عبرت عنه وكالة الصحافة الفرنسية بالقول إن الفرنسيين باتوا أمام رهان كبير.
جبهة جمهورية
كانت القوى السياسية أكثر شعورا بالخطر على ما يبدو، ولذلك كانت أسرع إلى الاستجابة، حيث تغلبت أحزاب الوسط واليسار وغيرها على انقساماتها وأبرمت عدة اتفاقات سريعة لتحول دون استمرار تفوق اليمين المتطرف، وقد تمثل أبرز مظاهر هذه الاتفاقات في انسحاب أكثر من 200 مرشح من معسكري اليسار والرئيس ماكرون من الدوائر التي كانت ستشهد منافسة بين 3 مرشحين لتعزيز حظوظ زملائهم في التغلب على مرشحي التجمع الوطني. وكان الهدف من الانسحابات تشكيل ما أطلق عليه "جبهة جمهورية" لمواجهة اليمين المتطرف والحيلولة دون تمكن رئيسه جوردان بارديلا (28 عاما) من أن يصبح أول رئيس من أقصى اليمين يتولى رئاسة الحكومة منذ الحرب العالمية الثانية. الجدير بالذكر أن الانتخابات الفرنسية المبكرة جاءت نتيجة قرار الرئيس ماكرون حل الجمعية الوطنية عقب الخسارة الكبيرة التي لحقت بمعسكره في انتخابات البرلمان الأوروبي مقابل تقدم لليمين المتطرف. وبعد تقدم أقصى اليمين بالجولة الأولى من الانتخابات، دعا بارديلا الفرنسيين إلى منح ثقته لحزب الأغلبية المطلقة، واصفا الجولة الثانية بأنها ستكون واحدة من بين الجولات الأكثر حسما في مجمل تاريخ الجمهورية الخامسة التي تأسست عام 1958. أما زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، فقد بدت منتشية بعد أن حسمت مقعدها البرلماني من الجولة الأولى، ودعت الفرنسيين للتصويت لحزبها مجددا قائلة "نحن بحاجة إلى غالبية مطلقة".
آتت أكلها
لكن يبدو أن تحركات الأحزاب الفرنسية -ومعها مخاوف كثير من الفرنسيين- آتت أكلها، حيث كانت الأيام السبعة كافية لحدوث الانقلاب الكبير والانتقال بفرنسا من اليمين إلى اليسار. فالنتائج الأولية لجولة الإعادة والتي تقول وكالة رويترز إنها عادة ما تكون موثوقة، أشارت إلى تقدم ائتلاف اليسار إلى المركز الأول وتقدم معسكر يمين الوسط إلى المركز الثاني مقابل تراجع كبير لليمين المتطرف من المركز الأول بالجولة الأولى إلى الثالث بالجولة الثانية. ووفقا لتوقعات الإعلام الفرنسي بعد إغلاق مراكز الاقتراع مساء الأحد، فإن تحالف اليسار سيحصل على ما يتراوح بين 172 و215 مقعدا بالجمعية الوطنية التي يبلغ عدد مقاعدها 577. ويضم هذا التحالف الذي تكون حديثا حزب "فرنسا الأبية" برئاسة جان لوك ميلانشون والذي يوصف بأنه يساري متشدد، إضافة إلى الحزبين الاشتراكي والشيوعي وأنصار البيئة فضلا مجموعات أصغر ذات ميول يسارية. وقد يحل تحالف الرئيس ماكرون الوسطي في المرتبة الثانية، حيث يتوقع أن يفوز بما يتراوح بين 150 و180 مقعدا، انخفاضا من 245 مقعدا. وقد تراجع حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، الذي جاء في المقدمة بعد الجولة الأولى، إلى المركز الثالث. ومن المتوقع أن يحصل على ما يتراوح بين 120 و152 مقعدا. وإذا ترجمت هذه التوقعات على أرض الواقع بالنتائج النهائية، فمن غير المرجح أن يحقق أي معسكر أغلبية مطلقة من 289 مقعدا، وهو ما سيكون مشكلة من نوع آخر لكنها ربما تكون أهون من كابوس حصول اليمين المتطرف على الأغلبية المطلقة.
تحالف العار
وقد أثارت هذه التوقعات غضبا عارما في صفوف أقصى اليمين، واستخدم بارديلا عبارات حادة ضد التحالف الذي نفذته الأحزاب لقطع الطريق على أقصى اليمين، ووصف ما حدث بأنه "تحالف العار" الذي حرم الفرنسيين من "سياسة إنعاش". وأكد بارديلا أن التجمع الوطني ما زال "يُجسّد أكثر من أي وقت مضى البديل الوحيد" متعهدًا بأن حزبه لن ينزلق نحو ما وصفها بتسويات سياسية "ضيقة" ومؤكدًا أن "لا شيء يمكن أن يوقف شعبًا عاد له الأمل". ومقابل حالة من الصمت والحزب بمعسكر أقصى اليمين، انفجرت صيحات الفرح في تجمعات أنصار تحالف اليسار، وتحدث زعيم "فرنسا الأبية" مؤكدا أن على الرئيس ماكرون أن يعترف بالهزيمة في الانتخابات. أما رد ماكرون فجاء عبر ما وصفته وكالات الأنباء بأوساط مقربة منه بأنه يدعو إلى توخي الحذر في تحليل نتائج الانتخابات معتبرًا أن كتلة الوسط لا تزال "حيّة" جدًا بعد سنواته السبع في السلطة. وبعد قليل من هذا التسريب، قالت الرئاسة الفرنسية إن ماكرون يعكف حاليا على تحليل نتائج الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية، وسينتظر وضوح الصورة كاملة قبل اتخاذ القرارات اللازمة. وأضافت الرئاسة في بيان "سيحترم الرئيس، باعتباره الضامن لمؤسساتنا، خيار الشعب الفرنسي".