كتب السفير السوري لدى موسكو بشار الجعفري مقالا بالذكرى الـ80 للعلاقات السورية الروسية، كرّسه لصفحات ناصعة من أخوّة وصداقة البلدين، ودور موسكو والبطريركية الروسية في استقلال سورية.
مقال السفير الجعفري:
نشعل الشمعة الثمانين لعلاقاتنا الدبلوماسية السورية - الروسية المتميزة ونتطلع دائما إلى المزيد خدمة لشعبينا وبلدينا تختزل الذكرى الثمانون للعلاقات الدبلوماسية السورية- الروسية عقودا وسنوات أبعد بكثير من تاريخ إعلانها الرسمي، فالعلاقات المتجذرة من التعاون والأخوة بين البلدين عبر تاريخهما الطويل أرست شراكة استراتيجية لم تكن السياسة منطلقها الوحيد بل الأخوة الحقيقية بين الشعبين والتي انطلقت من ثقافة مشرقية ومرجعية روحية مشتركة، ومن الأمور المدهشة أن اسمي البلدين روسيا وسورية، باللغة العربية مؤلفان من نفس الحروف الأبجدية، وهذا من صناعة القدر الذي أصر على أن يكون البلدان قريبين من بعضهما البعض حتى بالإسم، ولذلك ليس من باب المصادفة أن تختار روسيا الاتحادية سورية لتكون مقراً إقليمياً لـ"منظمة محبي روسيا"، فعوامل التقارب كثيرة جداً من الثقافة والسياسة مروراً بأبعاد الجيوبولتيك والاقتصاد ووحدة الموقف في وجه الهيمنة الإمبريالية الغربية، وصولاً إلى ما نخوضه اليوم من الدخول معاً في حرب ضد إرهاب وفكر معولم هدد وما يزال يهدد الإنسانية جمعاء.
فالحديث عن تاريخ العلاقات السورية الروسية لا يتوقف عند التاريخ الحديث والمعاصر فقط، إذ إن الكنيسة الروسية، قبل أن تصبح بطريركية، كانت مطرانية تتبع لبطريركية دمشق وسائر المشرق، ورحلات الحجيج الروس لم تتوقف منذ قرون إلى الأرض المقدسة في بلاد الشام عموماً وسورية خصوصاً.
وإذا ما عدنا بالذاكرة إلى بداية القرن الماضي فقط، وحاولنا رصد بعض مفاصل تاريخ علاقة الصداقة والتحالف السوري- الروسي المحبوك بعناية بخيوط التاريخ الذهبية، والذي لا تكفيه أسطر هذا المقال للوقوف على جميع مفاصله، نجد أن موسكو وفي عام 1917، على لسان وزير خارجيتها آنذاك سيزونوف، كانت أول من فضح اتفاق الغرب الاستعماري السري لتقسيم المشرق العربي إلى دويلات عبر حدود مصطنعة ووضع هذه الدول تحت الانتداب الفرنسي- البريطاني باتفاق وزيري خارجية الدولتين بما عُرف لاحقاً عبر التاريخ باتفاق "سايكس- بيكو" المشؤوم، كما أن موسكو وقفت بحزم ضد فرض مؤتمر "سان ريمو" عام 1920 للانتداب الفرنسي على سورية، وشجب الاتحاد السوفييتي آنذاك هذا الأمر بوصفه شكلاً جديداً للوصاية الاستعمارية.
وفي خدمة الاستقلال وحق الشعوب في تقرير مصيرها كان الاتحاد السوفييتي أول من استخدم امتياز النقض "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي في 1946/2/16 لإسقاط مشروع قرار فرنسي يفرض شروطا على مطلب الوفد السوري لدى الأمم المتحدة بسحب القوات الفرنسية والبريطانية المُستعمِرة من سورية ولبنان، الأمر الذي أجبر فرنسا في النهاية على الرضوخ إلى المطلب السوري بجلاء آخر مستعمر فرنسي عن الأراضي السورية بتاريخ 1946/4/16.
وهنا لا بد من الإشارة إلى الدور العظيم الذي لعبه أول سفير سوفييتي في دمشق "دانيال سولود" والذي وقف بوجه العدوان الفرنسي الغاشم بقصف أحياء دمشق المدنية بالمدافع والذي بدأ بضرب حامية البرلمان السوري في 29 أيار 1945، حيث قام سولود حينها بتأمين خروج رئيس البرلمان السوري آنذاك "سعد الله الجابري" من مقر إقامته المؤقت في فندق "الشرق- أوريانت بالاس" بساحة "الحجاز" بعد أن قام الفرنسيون بقصف محيط الفندق، فتدخلت السفارة السوفييتية لوقف القصف وتأمين خروج بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية من ذات الفندق ومغادرته إلى لبنان، فما كان من البطريرك إلا أن قام باصطحاب الجابري معه بسيارته وتأمين وصوله إلى لبنان ومنها إلى جامعة الدول العربية في مصر ليقوم بفضح العدوان الفرنسي وقصف أحياء دمشق المدنية بالمدافع.
وفي سياق الإضاءة على مفاصل هذه العلاقة التاريخية المتميزة نتوقف عند تاريخ 23/09/1960 حيث قدم الوفد السوفييتي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة مطالبةٌ بإدراج بند إعلان بضرورة العمل على إنهاء الاستعمار ومنح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمّرة وذلك في جدول أعمال الدورة 15 للجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد اعتمد هذا القرار التاريخي برقم 1514 تاريخ 1960/12/14 ليشكل دفعة قوبة لنضال الأقاليم المستعمّرة من أجل الحصول على استقلالها، وبفضل هذا القرار التاريخي تم تأسيس "اللجنة الخاصة بتصفية الاستعمار في الأمم المتحدة" والمعروفة اختصاراً بـ"لجنة الـ 24" عام 1961، وقد تم انتخاب سورية منذ ذلك التاريخ وحتى الآن في عضوية هذه اللجنة كمقرر لها، وأسهمت هذه اللجنة في حصول عشرات الشعوب (80 دولة) على استقلالها وانضمامها لعضوية منظمة الأمم المتحدة.
وفي ذات الفترة التاريخية، لم تكن السياسة هي محور العلاقات فقط، ففي الاقتصاد أيضاً مفاصل عديدة في تاريخ العلاقات بين البلدين ابتداءً باتفاقية التعاون الاقتصادي الموقعة في 11/12/1957، مروراً بالاتفاق على قيام الاتحاد السوفييتي عام 1966 بالبدء بأعمال بناء سد الفرات في سورية.
أما في ثمانينيات القرن الماضي فتعمقت العلاقة وترسخت أكثر بتوقيع "معاهدة الصداقة والتعاون" بين البلدين والتي نتج عنها الدعم السوفييتي للجيش العربي السوري وإمداده بالسلاح والمستشارين والخبراء، وذلك في العام 1980.
واستمرت هذه العلاقة وتمتنت أكثر وأكثر وصولاً إلى أهم مفاصلها في تاريخنا المعاصر، وذلك عبر انطلاق ما سمي زيفاً "موجة الربيع العربي" التي وصلت سورية عام 2011، ويمكن القول إن أحد أهم أدواتها التخريبية كان ضرب المصالح الروسية في المنطقة عبر قطع هذا التحالف الاستراتيجي بين الجمهورية العربية السورية والاتحاد الروسي، فما كان من الغرب أمام صمود سورية وتكسر هذه الموجة على صخورها، إلا إطلاق العنان لموجات الإرهاب المعولم، الأمر الذي وقفت ضده سورية وأطلقت حربها ضد هذا الإرهاب فما كان من الحليف الروسي إلا التعاون مع سورية ومشاركتها في هذه الحرب منذ 2015/9/30 إدراكاً وإيماناً منه بأن خطر الإرهاب يهدد البشرية جمعاء، وهكذا سطّر الجيشان والشعبان والدولتان الحليفتان ملاحم من البطولة قدموا خلالها الكثير من الشهداء والجرحى الأبطال، والذين لا يفوتنا في هذه الذكرى إلا أن نتوجه من بطولاتهم وباسم الإنسانية جمعاء بأسمى وأصدق التحيات والشكر والتقدير.
إن الشراكة الاستراتيجية الممتدة والمتأصلة بين الدولتين والشعبين، تعيش اليوم ذروة العلاقة من الأخوة والتعاون والتحالف الاستراتيجي في عهد الرئيسين بشار الأسد وفلاديمير بوتين، فمنذ العام 2000 ازدادت وتيرة الزيارة الرئاسية المتبادلة بين زعيمي البلدين، حيث بلغ عدد هذه الزيارات حتى يومنا هذا ثماني زيارات كان آخرها زيارة الرئيس بشار الأسد إلى موسكو بتاريخ 14 آذار 2023.
وهذه الشراكة الاستراتيجية ليست فقط في مجالات السياسة والتعاون العسكري بين الجيشين في الحرب على الإرهاب، أو في دعم روسيا لجميع مساعي المصالحة (السورية-السورية) والوقوف في وجه أي تدخل خارجي، وحرصها الدائم على استقلال وسيادة سورية ووحدة أراضيها، ودعم استقلال قرارها الداخلي سواء في أروقة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية أو عبر مسار أستانا ومؤتمر سوتشي.. وغيرها، وإنما أيضاً عبر تأسيس "اللجنة الحكومية السورية- الروسية المشتركة" للتعاون الاقتصادي والتجاري والعلمي والفني، والتي تجتمع بشكل دوري منذ سنوات لتنسيق التعاون والقضايا المشتركة بين الحكومتين، حيث تم توقيع عدد كبير جداً من الاتفاقيات الثنائية بين العديد من وزارات الدولتين، إضافة لـ"هيئة التنسيق السورية-الروسية المشتركة" التي تعنى بتنسيق عودة اللاجئين وتقديم المساعدات الإنسانية ومجالات أخرى.
بطبيعة الحال إن كل هذه المجالات من التعاون والتنسيق العالي بين الدولتين، يتم عبر العاصمتين ومن خلال سفارتي البلدين اللتين تضطلعان بدور كبير جداً من العمل والتواصل الدائم مع كافة الهيئات والوزارات في البلدين لتنسيق استمرار ونجاح العمل والتعاون المشترك، فسفارة الجمهورية العربية السورية لدى روسيا الاتحادية وعبر العلاقة المميزة مع وزارة خارجية الاتحاد الروسي تعمل على تنسيق المراسلات واللقاءات الدورية لإتمام وإنجاح العديد من الاتفاقات واللقاءات والاجتماعات المشتركة.
كما أنه وعلى مستوى العمل الشعبي والاجتماعي والقنصلي فإن السفارة تعمل بالتعاون مع مسؤولي "الجالية العربية السورية في روسيا الاتحادية" على تنسيق العديد من الفعاليات الاجتماعية والأهلية لترسيخ المزيد والمزيد من علاقات الأخوة بين الشعبين، فالجالية السورية في روسيا قديمة وفاعلة ولديها حضورها في المجتمع الروسي فهي جالية مثقفة وفيها العديد من حملة المؤهلات العلمية العالية من رجالات الفكر والثقافة إضافة للعديد من رجالات الأعمال والصناعة والتجارة والاقتصاد الحريصين على التواصل وتنسيق الأعمال بين رجالات الأعمال في البلدين عبر "مجلس الأعمال الروسي- السوري" الذي تأسس عام 2004 بمبادرة من غرفة تجارة وصناعة روسيا الاتحادية.
كما أن السفارة تقوم بمتابعة التحصيل العلمي ودراسة آلاف الطلبة السوريين الدارسين في جامعات ومعاهد روسيا الاتحادية التي تقدم حوالي 1000 منحة للطلبة السوريين سنوياً، الأمر الذي يشكل بوابة جديدة من أبواب استمرار وتمتين العلاقة بين البلدين والشعبين، وهنا لا بد من الإشارة إلى دور هؤلاء الخريجين برفد الجامعات والحياة العلمية والعملية في سورية، خاصة وأن عدداً كبيراً جداً من أساتذة الجامعات في سورية والتي تعتبر من أعرق جامعات العالم هم من خريجي الجامعات السوفيتية والروسية ويشغلون مناصب علمية متميزة من عمادات كليات ورؤساء أقسام في هذه الجامعات، وهم حريصون على استمرار تواصلهم مع أحدث العلوم والجامعات الروسية كمعهد الاستشراق أو "رابطة خريجي الجامعات السوفييتية والروسية".. وغيرهم الكثير.
وعلى مستوى العلاقة مع الأصدقاء من الشعب الروسي الذين سبق وأن زاروا سورية أو عاشوا فيها أو درسوا الثقافة المشرقية والأدب واللغة العربية في الجامعات السورية، أو ممن شاركوا الجيش العربي السوري سواء كخبراء عسكريين منذ عام 1973 أو شركاء في الحرب على الإرهاب، فإن السفارة حريصة على التواصل الدائم وأفضل العلاقات مع هؤلاء الأصدقاء الأبطال عبر كل من "رابطة المحاريين الروس في سورية"، و"رابطة المحاريين القدامى الذين شاركوا في أعمال قتالية"، و"مؤسسة روسار الخيرية".. وغيرهم. ختاماً، وبينما نشعل شمعة جديدة في تاريخ هذه الأخوة والتحالف الاستراتيجي بين الشعبين والبلدين، فإننا نؤكد ثقتنا وعملنا الدائم لاستمرار وتعميق هذا التحالف أكثر وأكثر، خاصة وأننا نعيش اليوم على أبواب ولادة نظام عالمي جديد عنوانه التعددية القطبية التي ترسي معالمها روسيا الاتحادية بالتعاون مع أصدقائها من الدول والشعوب المناضلة والمؤمنة بالعدالة والسلام وحق تقرير المصير وعلى رأسهم الجمهورية العربية السورية.