سيريا ستار تايمز

جلسات التحضير لـ مؤتمر الحوار.. تجربة سورية وليدة والعدالة على رأس الأولويات


في مشهدٍ استثنائي يُعد الأول من نوعه في تاريخ سوريا الحديث، انطلقت جلسات التحضير لمؤتمر الحوار الوطني السوري، محمّلةً بأصواتٍ مرتفعة ونقاشاتٍ حادة تعكس عمق الغيرة الوطنية والرغبة الجامحة في الحفاظ على مكتسبات الثورة والنصر. وهي ليست مجرد جلسات حوار عابرة، بل مساحة حقيقية تُترجم أوجاع السوريين المكبوتة على مدار خمسة عقود من الاستبداد، إذ لم يعد الصمت خياراً، ولم تعد القضايا المسكوت عنها قابلة للتجاهل. بين أروقة هذه الجلسات، علت الأصوات مطالبةً بالعدالة، رافضةً أي محاولة لتعويم رموز النظام المخلوع، ومصممة على صياغة مستقبل يليق بتضحيات السوريين وتاريخهم النضالي. توجّه حمدو سلات من مدينته بنّش بريف إدلب، إلى المركز الثقافي في مركز المحافظة، حيث كان بانتظاره في 18 من شباط الجاري، حدثاً استثنائياً في العهد السوري الجديد، وفرصة لأول مرة يحظى بها المواطن السوري الذي نشط في مجال ذوي الإعاقة لسنواتٍ طويلة، ليتحدثَ في قضيةٍ شكلت هاجساً له على مدار سني عمره، إنها ـ أي الجلسات ـ "ترجمة حقيقية لأوجاع الناس المكبوتة على مدار خمسة عقود من الاستبداد" يقول "سلات".

طبيعة المؤتمر
في ذات المكان الذي شهد "جلسة الحوار ضمن مسار الحوار الوطني" في مدينة إدلب، الذي شهد حضوراً كثيفاً من الأهالي والنخب الاجتماعية والثقافية في المحافظة، نادت سيدة بحدّة: "صار عمري 60 سنة لحكيت، بدي احكي، اتركوني احكي"، هذه العبارة التي تبرز رمزية الجلسات هذه وقدسيتها لدى السوريين، باعتبارها الفرصة التاريخية المنتظرة للحديث بسقفٍ عالٍ عن الشأن العام في سوريا، وهو ما ظهر جلياً في مداخلات المشاركين التي لم توفّر موضوعاً في السلم الأهلي، و"الأقليات" والانتخابات الرئاسية والإعلان الدستوري والحريات العامة والعدالة الانتقالية ومحاسبة المجرمين والمتورطين في قتل السوريين وإعادة الإعمار وشكل الحكم والدولة وهويتها، ومواضيع أخرى كان مسكوتاً عنها في جلسات علنية في سوريا. تحدّث سلّات وهو بطل في رفع الأثقال من ذوي الإعاقة وممثل عن هذه الفئة في الجلسة، عن "إشراك ذوي الإعاقة في عملية الصنع القرار في سوريا، وضرورة أن يوجد تمثيل حقيقي لهم في مؤتمر الحوار الوطني"، إنها القضية التي حملها معه إلى الجلسة وحملته إلى "حوار حقيقي لا يشبه الحقبة السابقة التي كانت مليئة بالمسرحيات والتصفيق والتلقين فقط"، يضيف محدّثنا.

لم تهمل المداخلات المنوّعة حتى طبيعة المؤتمر المزمع عقده، وطرح الحقوقي محمد سلامة، ضمن مداخلة تساؤلاً فيما لو كان التحضير لمؤتمر حوار أو مؤتمر وطني، على اعتبار أن الأخير أكثر أهميةً فضلاً عن قراراته الملزمة، على خلاف ما قد يصدر من توصيات من "مؤتمر حوار"، كما عرّج عن إمكانية وجود إعلان دستوري مؤقت يقود المرحلة المؤقتة في سوريا.

"اذهبوا فأنتم السجناء".. العدالة الانتقالية
حضر ملف العدالة الانتقالية بقوّة بين الحضور الكثيف في إدلب، الذي اضطر بعضهم في إثره إلى الاستعانة بكراسٍ إضافية من خارج القاعة، وآخرون للوقوف، وسط تهافت على "مايك التكلّم"، في هذا الاستحقاق الوطني، كما يصفه سوريون، وكانت المطالباتُ بضرورة محاسبة المتورطين في قتل السوريين من تشكيلات نظام الأسد البائد، وهو ما تجسّد في مداخلة مؤثرة للأستاذ الجامعي، أحمد نجيب، كان ضحيّة لقصف النظام بالبراميل والكيماوي، فقد في إثرها بصره وعُقد لسانه، أكد من خلالها على رفض مسامحة القاتلين والمجرمين وطالب بمحاسبتهم وختم كلامه بـ"اذهبوا فأنتم السجناء".

لا شكّ أن المداخلات من هذا النوع، هي مرآة للمجتمع السوري وجمهور الثورة على وجه التحديد الذي يطالب بإلحاح وصرامة على المحاسبة والعدالة. كانت المداخلات في هذا السياق من أقصى شمالي سوريا في إدلب، إلى أقصى جنوبها، درعا، متوائمة ومنسجمة، إذ لم يفوّت شاب من درعا، ضمن مداخلة، فرصة للتعبير عن رفضه إعادة تعويم شخصيات كانت على علاقة بالأجهزة الأمنية في درعا، أو "صالحت" وفق اتفاق "المصالحة" الذي جرى في درعا في العام 2018 برعاية روسيّة، ومتورطة في سفك الدم السوري، ودعا لضرورة محاسبتها.

التنوع والمحاصصة الطائفية
تشهد جلسات التحضير المعقودة بحضور اللجنة التحضيرية لمؤتمر الحوار الوطني المشكّلة في 11 شباط الجاري بقرار من رئيس الجمهورية، تمثيلاً واسعاً من الأطياف الدينية والعرقية والنخب الثورية والثقافية، ضمن جلسات المحافظات السورية، التي عقدت في حمص ودمشق وريفها وحماة وإدلب واللاذقية، وجلستين لممثلين عن محافظتي الرقة والحسكة عقدتا في دمشق، في وقتٍ ما زالت تسيطر "قسد" على المحافظتين في الشمال الشرقي في سوريا. ويبدو التنوّع الحاصل على الصعيدين الطائفي والسياسي في الجلسات محفزاً للطروحات والرؤى التي عرّجت إلى شكل الحكم وهوية الدولة، وهي واحدة من القضايا التي ما زالت تثير جدلاً غير مؤجل حتى تشكيل الدستور. غادة دعبول، المنحدرة من مدينة محردة ذات الأغلبية المسيحية، تحدّثت في مداخلة تداولها ناشطون على نطاق واسع على مواقع التواصل، ضمن الجلسة في مدينة حماة المنعقدة في 18 من شباط الجاري، عن متاجرة نظام الأسد بـ"الأقليات" واللعب على هذا الوتر، ما جعلهم في مواجهة صريحة مع المحيط (السني)، وهو ما لم تقله السيدة صراحةً، لكن أشارت إليه، وفيما بعد تحوّلوا إلى محط عداء مع باقي المكوّنات السورية، رغم محاولاتهم بـ"عدم السماح له في ذلك، عبر عدة طرق".

قالت السيدة في المداخلة: "نريد سوريا حرة، نريد سوريا تعددية، سوريا ما فيها كفاءة لمسيحي لأنه بمثل المسيحي، اللي بمثلني كسوريّة هو الكفء". هذه المداخلة لاقت تفاعلاً لأنها تحدّثت بصراحة ولأول مرة عن موضوع إشكالي لدى السوريين في الاصطفاف الطائفي سواء مع نظام الأسد أو خصومه، وتوظيف "الأقليات/ المكوّنات" في حربه ضد السوريين. وتبدو مداخلة السيدة منسجمة مع توجّه لجنة الحوار التي كررت في عدة جلسات رفضها التمثيل على أساس طائفي، خشية الوقوع في فخ المحاصصة الطائفية في استعادة لسيناريوهين مدمّرمين في المنطقة، لبنان والعراق، كما جاء على لسان حسن الدغيم، المتحدث باسم اللجنة التحضيرية في جلسة نقاشية عقدت في دمشق في 17 من شباط الجاري مع وسائل الإعلام ـ حضرها موقعنا  واعتبر أن المحاصصة الطائفية تفرض على المناضلين الوطنيين التطييف ورفع الراية الطائفية للدخول في المعركة، في وقتٍ رفض فيه الاعتماد على جداول مسبقة بالنسبة المئوية للطوائف، مع الحرص على مراعاة التنوع الديني والطائفي في الصورة النهائية لمؤتمر الحوار، مؤكداً أن واحداً من المبادئ الخمسة للثورة السورية هو رفض المحاصصة الطائفية والعرقية في البلاد. وفي جلسة ريف دمشق يوم أمس رفع الباحث أسامة أبو زيد ابن مدينة داريا صوته عالياً مطالباً بالشفافية من السلطات، وشدد على تحصيل العدالة للضحايا ومحاسبة المجرمين، وعدم القفز فوق الماضي، مشيراً إلى أن السوريين يستوعبون التحديات الأمنية التي تواجه الحكومة وربما اضطرارها إلى عدم القبض على مجرمي حرب مقابل الاستفادة منهم في القبض على مجرمين أكبر، إلا أن ذلك لا يكون على حساب حقوق الضحايا.

سيريا ستار تايمز - syriastartimes,