سيريا ستار تايمز

مصنع الموت في سوريا.. وول ستريت جورنال تكشف عن أسرار صيدنايا


في تحقيق صادم نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال"، كُشف النقاب عن مجازر جماعية جديدة نُفّذت داخل سجن صيدنايا العسكري سيئ السمعة، قبل أشهر فقط من سقوط نظام بشار الأسد، في ما وصفه خبراء بواحدة من أبشع جرائم القتل المنهجية التي ارتكبتها دولة في القرن الحادي والعشرين. اعتمد التحقيق على شهادات 21 معتقلاً سابقاً ووثائق رسمية وعمليات توثيق ميداني قام بها مراسلو الصحيفة، وكشف تفاصيل مرعبة عن عمليات شنق جماعية وتعذيب حتى الموت ودفن سري لآلاف الضحايا في مقابر جماعية، وسط محاولات رسمية للتغطية على تلك الجرائم بالتوازي مع خطوات سياسية كان النظام يسعى من خلالها لفك عزلته الدولية. ويأتي هذا التقرير في وقت تقف فيه الحكومة السورية الجديدة أمام اختبار تاريخي بشأن فتح ملفات المحاسبة والعدالة، وسط تساؤلات حاسمة حول مصير عشرات الآلاف من السوريين الذين اختفوا قسرياً خلال حكم الأسد، ومآلات العدالة الانتقالية في بلد أنهكته آلة القمع على مدى أكثر من عقد.

وفيما يلي ترجمة لهذا التحقيق:

كان الشنق من الأمور المعهودة في صيدنايا: مصنع الموت سيء الصيت أيام حكم بشار الأسد.
إذ في يوم معين بالشهر، وعند منتصف الليل تقريباً، كان حراس سجن صيدنايا ينادون أسماء المحكومين، والذين كانت أعدادهم تصل إلى العشرات في كل مرة، ثم يطوقون رقابهم بحبال المشنقة، وبعد ذلك يسحبون الطاولات من تحت أرجلهم في حركة تطلق صوتاً يتردد صداه في أرجاء المبنى كله، ولهذا فإن من كانوا يشغلون الزنازين القريبة يسمعون صوت حشرجة الرجال وهم يختنقون حتى الموت.

أسوأ مجزرة ارتكبتها دولة منذ الحرب العالمية الثانية
في فترة لاحقة، وتحديداً في أواسط شهر آذار من عام 2023، تسارعت وتيرة عمليات الشنق بشكل كبير، بحسب ما أورده ستة شهود، ويحدثنا عن ذلك عبد المنعم القائد، 37 عاماً، والذي كان في السابق أحد العساكر المنضمين للثوار، لكنه اعتقل بعد أن سلم نفسه بموجب ما اعتقد أنه صفقة للعفو أطلقتها الحكومة، فيقول: "جمعوا 600 شخصاً ثم قتلوهم في غضون ثلاثة أيام، أي أنهم كانوا يقتلون مئتين كل يوم". حدثت عمليات القتل الجماعية التي نفذت في عام 2023، والتي لم يرد أي نبأ عنها قبل اليوم، في الوقت الذي سعى الرئيس السوري السابق إلى كسر العزلة الدولية المفروضة عليه، إذ بعد مرور أكثر من عقد على لجوئه للقصف والتعذيب والهجمات الكيماوية لسحق حركة العصيان الداخلي التي تعرض لها، غاص الأسد في محادثات مع العناصر الفاعلة الإقليمية التي أعادت سوريا إلى الجامعة العربية في نهاية الأمر، بما أن بعض الدول العربية والمسؤولين الغربيين صاروا يعتبرون الثورة قضية خاسرة، ولهذا سعوا لاحتضان الأسد ولتجميد النزاع.

كشف الانهيار المفاجئ لنظام الأسد في أواخر العام الماضي مدى جسامة الأخطاء في حسابات المجتمع الدولي، إذ خلال الخطوات الأولى بعد تقدمهم إلى دمشق ليلة الثامن من كانون الأول، اقتحم الثوار هذا السجن فأطلقوا النار على أقفال الأبواب فيه، محررين من تبقى من السجناء هناك، فأماطوا بذلك اللثام عن أحد أسوأ نماذج القتل الممنهج الذي مارسته الدولة منذ أيام الحرب العالمية الثانية.

القتل بكل بيروقراطية!
في داخل هذا السجن، نرى مبنيين خراسانيين محاطين بالأسلاك الشائكة وقد أقيم كلاهما على سفح جبل قريب من دمشق. وهناك، نفذ نظام الأسد عمليات القتل والتعذيب التي وصلت لمستويات قياسية، إذ يرجح أنه قتل الآلاف من الناس هناك خلال مدة تجاوزت العقد، حيث كان نظام الأسد ينظم عمليات القتل بصورة بيروقراطية لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلاً، وذلك لأن الجهاز الأمني التابع لنظام الأسد احتفظ بسجلات دقيقة لعمليات نقل المعتقلين إلى هذا السجن وغيره من السجون، إلى جانب احتفاظه بوثائق المحاكمات وشهادات الوفاة التي صدرت بحق من جرى إعدامهم. يعلق على ذلك ستيفن راب، الذي شغل في السابق منصب السفير الأميركي المتجول المعني بجرائم الحرب، فيقول: "إنها أسوأ جريمة وقعت في القرن الحادي والعشرين من حيث عدد القتلى وتورط الحكومة في ذلك بشكل مباشر، ولهذا أربط ما حدث هنا بما فعله النازيون وبما حدث في روسيا أيام الاتحاد السوفييتي، وذلك من حيث طبيعة الإرهاب الذي تمارسه الدولة".

مجازر بموجب إصلاحات
ربط عدد من السجناء السابقين المجازر التي وقعت في شهر آذار من ذلك العام بإصلاحات الأسد المزعومة التي أطلقها في مرسوم صدر في أواخر العام نفسه، وذلك ضمن سعيه لكسب القبول من جديد على المستوى الدولي. إذ في أواخر عام 2023 ألغى الأسد محكمة الميدان العسكرية التي كانت تحيل معظم المعتقلين إلى صيدنايا، وخفف أحكام الإعدام التي صدرت بحق بعض السجناء، غير أن معتقلين سابقين وخبراء في جرائم الحرب يعتقدون بأن النظام قرر تنفيذ عملية قتل جماعي أخيرة قبل أن تعمل هذه الإجراءات على إبطاء وتيرة آلة القتل. وبما أن الناجين اليوم بات بوسعهم الحديث عن الأمر بصراحة، كما صاروا يسمحون بنشر أسمائهم وإظهار وجوههم، فإن هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن انهيار النظام قد غير شكل المجتمع السوري، إذ كان من بين الرجال الذين أفضت بهم الأمور إلى الوصول لسجن صيدنايا خلال الحرب، منشقون عن الجيش وهاربون منه، إلى جانب العساكر الذين انضموا إلى الثورة والناشطين السلميين، وكان من بين المعتقلين السابقين الذين أجريت معهم مقابلات من أجل هذا التحقيق أحد العلماء المتخصصين بالمجال النووي، ومهندس اعتقل فقط لأنه صديق على فيس بوك مع أحد الناس الذين وجهوا انتقاداتهم للنظام.

سجن صيدنايا: وصمة على جبين العالم
تكشف شهادات هؤلاء الأشخاص عن الحجم الحقيقي للتعذيب والقتل داخل سجن صيدنايا خلال السنوات التي رشحت معلومات عن حدوث انتهاكات هناك وظهرت تلك المعلومات في تقارير محققي الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية أخرى مثل منظمة العفو الدولية ومنظمة هيومان رايتس ووتش ومنظمات المجتمع المدني مثل المركز السوري للعدالة والمساءلة، وفرقة الطوارئ السورية، ورابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، أي بمعنى أصح بعد أن علم العالم بأمر سجن صيدنايا، لكنه فشل في وقف تلك الجرائم التي كانت تحدث داخله. يعلق على ذلك الأستاذ الجامعي عماد الأقرع، الذي يعمل اليوم على إعادة تأهيل السجناء وعلى ملف العدالة الانتقالية في سوريا، بعد أن حبس في عام 2011 وذلك لقيامه بمداخلة تلفزيونية ضد النظام، فأمضى في سجن صيدنايا قرابة السنة، ولهذا يقول: "يعتبر هذا السجن رمزاً للعار ووصمة على جبين العالم بأسره، وليس فقط على جبين سوريا".

اعتمد هذا التحقيق على مقابلات أجريت مع 21 معتقلاً سابقاً في سجن صيدنايا، إلى جانب مسؤولين سابقين لدى النظام متورطين في عمليات القتل، وقرابة اثني عشر خبيراً سورياً وأجنبياً في ملف جرائم الحرب، فضلاً عن مراجعة شملت مئات الصفحات التي تضم وثائق أعدها ضباط نظام الأسد وعثر عليها في سجن صيدنايا وغيره من المقار الأمنية بسوريا. كما زار مراسلو صحيفة وول ستريت جورنال السجن ثلاث مرات لتوثيق الأدلة التي تشير إلى ارتكاب جرائم كثيرة.

"السجن العسكري الأول"
كان سجن صيدنايا الذي تعرفه الوثائق الرسمية للنظام بـ"السجن العسكري الأول" أكبر سجن بين أكثر من عشر مراكز لتنفيذ عمليات الإعدام أقامها نظام الأسد في محاولة منه لزرع الخوف في نفوس الشعب السوري ولإحباط الانتفاضة والثورة المسلحة التي قامت ضد حكمه في عام 2011. أما الاسم الشعبي للسجن، أي سجن صيدنايا، فأتى بسبب إنشائه في إحدى القرى الجبلية الصغيرة، والتي تحول اسمها في سوريا إلى اسم رديف لعمليات الخطف والقتل التي عانى منها الشعب السوري على يد النظام على مدار 14 عاماً، كما أصبحت عبارة "مفقود في صيدنايا" طريقة للتعبير عن اعتقال شخص ما مع عدم رؤية أحد له بعد اعتقاله. وبالإضافة إلى الآلاف الذين قتلوا في عمليات الإعدام المنظمة، يرجح معتقلون سابقون وخبراء في جرائم الحرب احتمال موت عدد مماثل من الأشخاص في صيدنايا بسبب التعذيب أو الظروف القاسية هناك، والتي تشمل عمليات الضرب بأنابيب وعصي معدنية، والتجويع، أو بسبب العطش الشديد أو الأمراض. كان السجناء يحتجزون في زنزانات تعج بالقمل، جدرانها من الفولاذ، ولها فتحة وحيدة تستخدم كنافذة، ويحظر على السجناء النظر إلى وجه حراسهم، ومن يخالف ذلك يتعرض للضرب الشديد ثم يترك لينزف على الأرض. يحدثنا عن ذلك علي أحمد الزوارة وهو مزارع من ريف دمشق اعتقل عندما كان عمره 25 سنة بسبب تخلفه عن أداء الخدمة العسكرية في عام 2020، وعن ذلك يقول: "كانت صيدنايا كابوساً، بل إنها مجزرة كبيرة، لأن جميع من ذهبوا إلى هناك لم يخرجوا". إن المئات الذين أخلي سراحهم في كانون الأول لا يمثلون إلا نسبة ضئيلة من آلاف السوريين المفقودين خلال الحرب، وذلك لأن نحو 160124 سورياً وسورية اختفوا قسراً على يد النظام السوري خلال الحرب وذلك بحسب ما أعلنته الشبكة السورية لحقوق الإنسان. ومايزال بعض أهالي المفقودين يأملون بأن يكون أحباؤهم ما يزالون على قيد الحياة، في حين دخل آخرون في حالة حزن غريبة، تقبلوا من خلالها موت أحبائهم، من دون أن تصلهم إجابات حول طريقة مفارقتهم للحياة أو أين قضوا، هذا فضلاً عن عجزهم عن دفنهم بأيديهم. تحدثنا عن ذلك دينا الكش التي اعتقل زوجها عمار درعة الذي كان يعمل موزعاً للبضائع بالجملة، ثم أخفي قسرياً عندما كان في السادسة والأربعين من عمره، وذلك في عام 2013، فتقول: "على الرغم من أننا نعلم بأنه وصل في نهاية الأمر إلى صيدنايا، فإننا لا نعرف ماذا حدث له هناك، كما أننا لم نستلم جثته"، فلقد تأكدت الأسرة من نقله إلى سجن صيدنايا من خلال الوثائق التي عُثر عليها في مقار المخابرات إبان سقوط النظام في كانون الأول الفائت.

وتتابع دينا بالقول: "يتحتم علينا أن نقول: "الله يرحمه"، إلا أننا نُتبع ذلك دوماً بمقولة: سواء أكان حياً أم ميتاً".
بني هذا السجن في ثمانينيات القرن الماضي خلال فترة حكم حافظ الأسد، والد بشار، ثم انتقل السجن العسكري الأول في صيدنايا هو والدولة الأمنية مترامية الأطراف التي يمثلها إلى سلطة الابن بمجرد توليه للسلطة في عام 2000. وفي ربيع عام 2011، ظهرت موجة الثورات في الشرق الأوسط، وبعد المظاهرات التي أطاحت برئيسين حكما لفترة طويلة في كل من تونس ومصر في شهر كانون الثاني من ذلك العام، نزلت حشود هائلة من السوريين إلى الشوارع مطالبة بحريات سياسية أكبر.

"لن ترى الشمس بعد اليوم"
عند بدء الانتفاضة في سوريا، كان محمد عبد الرحمن إبراهيم في السادسة والعشرين من عمره، وكان وقتئذ يرتدي نظارات سميكة، أما صوته فكان خافتاً، وفي تلك الفترة كان يدرس الرياضيات للطلاب بعد أن حاز على إجازة في الرياضيات العالية، وكان ما يزال يعيش مع أبويه في بيت إسمنتي بني على أحد الأطراف الجنوبية لمدينة دمشق، وذلك في حي يعج بالمتخصصين بإصلاح السيارات والسائقين الذين يعملون في نقل الطلبات. التحق هذا الشاب في صيف ذلك العام بجيش الأسد، فأرسلوه لحراسة قاعدة جوية في الشمال السوري كانت طائرات النظام تستعين بها لقصف مواقع الثوار القريبة من حلب. وبما أنه لم يتقبل عنف النظام البتة، لذا انشق عن الجيش في كانون الثاني من عام 2013، وانضم لأحد ألوية المعارضة بالقرب من دمشق، وبما أن التعب قد بلغ منه حد الإنهاك لذا اعتزل القتال بعد بضعة أشهر، ثم فر إلى إحدى مناطق الجنوب السوري التي كانت بيد المعارضة، وهناك أمضى أربع سنوات وهو يدرّس الرياضيات ويعمل في أحد البقاليات، أي أنه عاش حياة النزوح الداخلي، بما أنه لم يكن بوسعه أن يعود إلى بيته في دمشق من دون أن يراوده الخوف من الاعتقال. في عام 2018، أعلن النظام عن عفو شمل بعض ثوار الجنوب بضمانة روسية، وبما أن هذا الشاب تعب من العيش في خوف عند عبور حواجز النظام، لذا قرر أن يقبل بتلك الصفقة. رتب إبراهيم أمور تسليم نفسه في أحد مقار الشرطة العسكرية بدمشق، وعند وصوله، سلم هويته ونسخة عن وثائق العفو للضابط الموجود هناك والذي ما كان منه إلا أن صرخ قائلاً: "اللعنة عليك! من أعطاك هذا؟" ثم رمى الأوراق على الأرض، وبعد أربعة أيام من الاستجواب، نقلوه وهو معصوب العينين إلى مقر المخابرات الجوية بمطار المزة، وهناك أمره الضباط أن يوقع على وثيقة يعترف فيها بقتله لعساكر تابعين للنظام. وبعد أن رفض التوقيع في البداية، تعرض للضرب بالعصي، ثم علقوه من رسغيه في السقف وربطوا كلتا يديه خلف ظهره، وبعد أن أنزلوه أرضاً، أخذوا يهددونه بأمه وشقيقته، حيث قال له أحدهم: "بوسعنا أن نجلبهما إلى هنا ونغتصبهما أمام عينيك". وبعد أقل من ساعة في جلسة التعذيب تلك، استسلم إبراهيم، فوقع على اعترافاته وبصم عليها، من دون أن يُسمح له بقراءتها. وعن ذلك يقول بعد أن بلغ الأربعين من عمره اليوم: "لعلي قد وقعت على أمر إعدامي، إذ لست أدري إن كنت قد فعلت ذلك".

"لن ترى الشمس بعد اليوم" هذا ما قاله له أحد ضباط المخابرات قبل أن يأخذوه ويضعوه في إحدى الشاحنات، وفي صبيحة أحد أيام شهر نيسان من عام 2019، نقل هو ونحو أربعين سجيناً آخرين إلى صيدنايا.

وهناك، جرده الحرس من ملابسه كلها، ثم أدخلوا جسده في إطار مطاطي حتى يتمكنوا من ضرب أطرافه، بعد ذلك وضعوه هو وسبعة شبان آخرين في زنزانة إسمنتية بالكاد تتسع لهم حتى لو ظلوا واقفين جنباً إلى جنب. بعد أن ظهرت الرضوض والكدمات على أجسامهم العارية التي ترتجف من البرد، أمسك كل منهم بالآخر طلباً للدفء وسط الظلام التام، في حين كانت مياه المجاري التي فاضت عن المرحاض قد وصلت إلى كواحلهم، فأخذ أحد الرجال يبكي وهو يقول: "سأموت قبل أن يطلع الصباح". بقي جميع الشبان الموجودين في زنزانة إبراهيم أحياء حتى صباح اليوم التالي، وذلك عندما فتح الحراس عليهم الباب، وسلموهم بزات رمادية، ثم اقتادوهم إلى زنازين السجن النظامية الموجودة في الأعلى. خضع إبراهيم بمجرد وصوله إلى سجن صيدنايا إلى الإجراءات المعهودة المتعارف عليها بين السجناء السابقين باسم "حفلة الاستقبال"، وهي عبارة عن طقس صمم خصيصاً لوهن نفسية السجين ولإعداده لحياة السجن التي تجرده من إنسانيته حسبما ذكروا. فارق بعض السجناء الحياة خلال عملية الضرب الأولى، والتي تتمثل عادة بجلد المعتقلين بخرطوم بلاستيكي أخضر مئة مرة على سيقانهم، وذلك بحسب ما ذكره عدد من المعتقلين السابقين. وأحد المعتقلين الذين أجريت معهم مقابلات من أجل هذا التحقيق، واسمه بشار محمد جاموس، 35 عاماً، وكان وقتئذ جندياً بين صفوف الثوار، بترت قدمه اليسرى بعد تعرضه للضرب لدى وصوله إلى ذلك السجن.

انتهاكات بمختلف الأشكال
كانت حفلة الضرب الأولى عبارة عن مقدمة لما سيعيشه المعتقل داخل السجن الذي يجرد فيه من شخصيته وإنسانيته بكل جوانبها، إذ كان التحدث محظوراً بأي صوت يعلو على الهمس، وكان السجناء يحرمون من ارتداء الأحذية، ومن حيازة الكتب أو الأقلام أو الأوراق. كانت رياح جبلية تعصف بالسجن طوال معظم أيام السنة، ولهذا كان السجناء يرتعدون من البرد وهم يرتدون بزاتهم الرقيقة كما الورق، ويقبعون داخل زنازينهم التي تفتقر إلى أي شكل من أشكال التدفئة. ذكر السجناء بأنهم أجبروا على شرب بولهم، وبأنهم تعرضوا لاعتداءات جنسية، وبأن الحرس كانوا يضربونهم باستمرار بقضبان حديدية وبأنابيب بلاستيكية خضراء، وأثناء فترة الاستحمام يتذكر أحدهم كيف كان الدم الناتج عن الضرب يمتزج مع الصابون والماء في أرضية الحمام. يعلق إبراهيم على ذلك بقوله: "كانوا يضربوننا كلما فتحوا الباب".

كما كان السجناء يتعرضون للتجويع في أغلب الأحيان ويحرمون من مياه الشرب، إذ كان كوب واحد من الأرز يقدم لزنزانة ممتلئة بالشبان، ليكون ذلك حصتهم من الطعام طوال اليوم. وبسبب عدم توفر الطعام هزلت أجسادهم، وفي إحدى المرات قطع الحرس الماء عنهم طوال 17 يوماً متواصلاً، ولهذا اضطر أحد السجناء، واسمه بسام عبد الرحمن لشرب مياه المرحاض، ما تسبب بمرضه ثم موته بعد عدة أيام بحسب ما يتذكره أحد زملائه في الزنزانة واسمه محمود عمر وردة، 34 عاماً.

يعلق وردة على ذلك بقوله: "كنا في البداية 25 شخصاً، وفي نهاية المطاف لم يتبق منا سوى ثمانية، إذ قتل الجميع وفارقوا الحياة أمامنا في الزنزانة"، ومعظمهم قضوا بسبب الضرب حسبما ذكر وردة الذي يقيم حالياً بمدينة عفرين في شمالي سوريا.

من صيدنايا إلى نجها
في صيف عام 2011، وخلال سعي الأسد لسحق الانتفاضة التي قامت ضده، كان أحد العاملين في بلدية دمشق واسمه محمد عفيف نايفة في مكتبه عندما قدمت إليه ثلة من رجال الأمن، فطلبوا منه جمع عدد من الرجال ليأتي بهم إلى مقبرة في ريف دمشق الجنوبي. وفي الموقع المحدد، أي في مقبرة نجها، أتى رجال الأمن بشاحنة تبريد تحمل 10 جثث وطلبوا من العمال دفنها، ما جعل القشعريرة تسري في جسد نايفة، الذي يسرد رد فعله فيقول: "لم أسأل أي سؤال". وخلال الأسابيع التي تلت ذلك، تكرر قدوم رجال الأمن إليه، وطلبهم لمزيد من العمال، للقيام بمزيد من عمليات الدفن التي كانت تتم تحت جنح الليل على الدوام. وخلال إحدى تلك العمليات، سلم ضابط من المخابرات الجوية قائمة بأصحاب الجثث لنايفة، غير أن الجثث لم تكن تحمل أسماء بل أرقاماً، لكنها تشتمل أيضاً على الأماكن التي أتت منها، وهي في الغالب إما فرع المخابرات الجوية أو أحد المستشفيات العسكرية. يعلق نايفة على ذلك بالقول: "عندئذ أدركت بأنهم ماتوا تحت التعذيب". وخلال الشهور التي أعقبت ذلك، ازداد عدد الجثث، فجلب فريق العاملين تحت إمرة نايفة جرافة وغيرها من المعدات لحفر قبور أكبر، كما بقيت شاحنات التبريد تأتي محملة بالجثث التي تورم بعضها جراء الضرب، وظهرت على بعضها الآخر آثار حول رقبتها، وكثير من تلك الجثث وصلت مرقمة. وفي بعض الأحيان كانت الجثث تصل داخل أكياس مخصصة، وفي أحيان أخرى تصل مكشوفة، وذلك بحسب ما ذكره نايفة ومسؤول سابق شارك في عمليات الدفن واسمه يوسف عبيد، والذي كانت مهمته تقتصر على قيادة الجرافة في ذلك المكان. وداخل المنظومة السرية للمشافي العسكرية والمشرحات التابعة للدولة، كانت جثث الضحايا القادمة من صيدنايا وغيرها من مقار الأمن تتكدس هناك بحسب ما أظهرته وثائق النظام البائد، فقد وردت شكوى من "الروائح الكريهة المنبعثة من الجثث المتحللة الموجودة داخل مبانيهم" وذلك في برقية صادرة عن المخابرات العسكرية في كانون الأول 2012 عثرت عليها لجنة العدالة والمساءلة الدولية.

توسيع مقبرة القطيفة
وبحلول العام التالي، لم يعد هنالك متسع في مقبرة نجها لدفن مزيد من السجناء أمام القوات الأمنية، فاستدعي نايفة وفريقه إلى منطقة خاوية تقع على أطراف دمشق من جهة الشمال، وهناك، وبالقرب من مدينة القطيفة، أمروا بمواصلة حفر قبور لعدد أكبر بكثير من الجثث. كانت المقبرة الجماعية الموجودة في القطيفة أكبر المقابر الجماعية الكثيرة التي استعان بها النظام لدفن جثث من قتلهم بشكل جماعي، فقد توسعت مساحتها من 19 ألف متر مربع إلى 40 ألفاً خلال الفترة ما بين 2014-2019، وذلك بحسب تحليل لصور الأقمار الصناعية أجراه مركز أيروسبيبس الألماني من أجل محاكمة أحد مسؤولي النظام عن جرائم الحرب في ألمانيا. وكان طول القبر يصل إلى 120 متراً، أما عرضه فيتراوح ما بين ثلاثة إلى خمسة أمتار.

وخلال تلك الفترة، كانت الشاحنات تصل إلى الموقع والخنادق تُحفر فيه، وذلك بحسب صور الأقمار الصناعية التي خضعت للدراسة.
وعلى مدار سنوات بقيت شاحنات أو ثلاث تصل إلى القطيفة حاملة الجثث كل أسبوع، لكنها كانت تحمل المئات من الجثث في بعض الأحيان، وكان يظهر على تلك الجثث أثار على الرقبة، في حين بقي حبل المشنقة معلقاً برقاب جثث أخرى، من خلال ذلك صار نايفة يعرف بأن تلك الجثث قادمة من سجن صيدنايا. انشق نايفة في عام 2017 وهرب إلى ألمانيا حيث أدلى هناك بشهادته في محاكمة لأحد مسؤولي النظام على جرائم الحرب، كما أدلى بشهادته أمام الكونغرس الأميركي، ولذلك بقي يخفي هويته الحقيقية لسنوات، ويعلق على ذلك بقوله: "لقد دمرني ذلك على الصعيد المعنوي والجسدي، إذ صرت أرى كوابيس منذ وصولي إلى ألمانيا".

تحديات جسيمة وخيارات صعبة
واليوم استحالت تلك المقبرة الجماعية إلى أرض موحلة تقع على أحد طرفي الطريق السريع ضمن المنطقة المتاخمة لعدة قواعد عسكرية. وعند إحدى زوايا هذه المقبرة بوسعنا رؤية أربع شاحنات مهجورة كانت تستخدم للاتصالات العسكرية الروسية، إلى جانب كتيبات كتبت بالروسية حول طريقة تشغيل المعدات الخاصة بالأبواب. بعد أن أضحت سوريا اليوم تخضع لحكم الثوار الإسلاميين الذين أطاحوا بحكم الأسد وأزاحوه عن السلطة، بقي هذا البلد يعاني من مشكلات كثيرة، ومن بين تلك التحديات التي تتعرض لها الحكومة السورية بدمشق قضية فتح تحقيق بانتهاكات النظام البائد، ومساعدة الأهالي في البحث عن المفقودين الذين اختفوا في سجون النظام. أمام السلطات السورية التي تسعى اليوم لتثبيت حكومتها الهشة خيارات صعبة بالنسبة لفتح هذا النوع من التحقيقات. لأن إجراء محاسبة شاملة لكل الجرائم المرتكبة في عهد الأسد يعتبر عملية مكلفة ومعقدة من الناحية التقنية، وهنا لابد من فتح القبور الجماعية، وإخراج الجثث الموجودة فيها، إلى جانب أخذ عينات من الحمض النووي، ومعرفة مكان الشهود، فضلاً عن إلقاء القبض على كل من يشتبه بضلوعه في تلك الجرائم. كما أنه من الصعب فتح هذا التحقيق على المستوى السياسي، لأنه سيثير الشكوك حول الثوار السابقين وإمكانية فتح تحقيق بشأن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبوها خلال فترة الحرب. وعدت الحكومة السورية الجديدة بتشكيل لجنة للتحقيق بجرائم الحرب التي ارتكبها النظام البائد، وسمحت لمحققين من الأمم المتحدة ولمحققين مستقلين بزيارة مواقع مثل سجن صيدنايا، لكنها لم تحدد حتى الآن شكل التحقيق الذي ستفتحه، وهل سيكون للمنظمات الدولية دور فيه أم لا.

خلال شهر شباط الماضي، زار محمد إبراهيم، أستاذ الرياضيات السابق، سجن صيدنايا بعد أن أصبح رجلاً حراً، فأخذ يسير في ذلك المبنى وهو يشير إلى زنزانته القديمة والغرفة التي تعرض فيها للتعذيب لأول مرة، ثم قال: "ما زلت أسمع الصرخات وصوت الضرب، وكأن جميع المشاهد تحدث أمامي الآن". وفي الوقت ذاته، ذكر بأن زيارته للسجن ساعدته على فهم الوضع، ولهذا قال: "بقيت أخاف أن أنام خلال الأيام الأولى من خروجي، لأني خلت أن كل ما جرى مجرد حلم، وبأني سوف أنهض لأجد نفسي في صيدنايا، إلا أن كل ذلك انتهى الآن".

سيريا ستار تايمز - syriastartimes,